ضمانات حماية المستهلك
إن تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتنامي تكاليف متطلبات
الحياة، إلى جانب ضعف القدرة الشرائية، يدفع العديد من الأسر وحتى الأفراد إلى
الإقبال أكثر على القروض البنكية عقارية كانت أو استهلاكية.
وهو ما ينتج
عنه ولادة علاقة تعاقدية تربط المدين (المستهلك) [1]
بالوكالة البنكية (الدائن)، تنظم تلك العلاقة مجموعة من النصوص التشريعية كقانون
حماية المستهلك وقانون الالتزامات والعقود ومدونة التجارة... وتخضع هذه العلاقة
التعاقدية لمقتضيات النظام العام وللقاعدة الأساسية العقد شريعة المتعاقدين، أي أن
العقد يكتسي قوة وحجية تلزمان طرفيه الوفاء به والاحتكامَ إليه بتنفيذ مضامينه. لكن
في بعض الأحايين قد تطفو على السطح ظروف غير متوقعة يضطر بسببها المدين إلى التوقف
اللاإرادي عن الوفاء بالتزاماته المالية وسداد أقساطه الشهرية للوكالة البنكية، وهو
ما قد يجعل هذه الأخيرة تباشر في حقه مسطرة تحقيق الرهن[2]
أو مباشرة مسطرة الاسترجاع إذا كان القرض يتعلق بشراء السيارات، بصورة أوضح.. الوكالة البنكية تحمي نفسها من الخسارة، بل وتستمر
في جني أرباحها كباقي الأيام العادية وكأن الأمر لا يتعلق بحالة استثنائية وظروف قاهرة
يمر بها المدين، ولا يتم إعذار هذا الأخير الذي يظل الطرف الأضعف في العلاقة التعاقدية، خاصة إذا ما علمنا أن القانون
المغربي قد أعذر المدين الذي عجز عن سداد دينه ولم يعتبره في حالة مطل إذا ما أدلى بسبب مقبول [3]
.
ولعل أهمية الموضوع تتجلى
أكثر في هذه الظرفية نتيجة الضرر الذي قد يلحق المستهلك -المدين- جراء تفشي جائحة
فيروس كورونا، ما يدفعه إلى فقدان عمله وبالتالي توقف مصدر الدخل، الشيء الذي يؤثر على
بنية العلاقة التعاقدية بينه وبين الوكالة البنكية.
وبالرغم من أن لجنة اليقظة لوزارة
الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة سنَّت مجموعة من التدابير للتكفل بالأسر
المتضررة من انعكاسات هذه الجائحة، وعلى رأسها
تأجيل سداد أقساط قروض السكن والاستهلاك لمدة ثلاثة أشهر، إلا أن هذه
التدابير لم تكن في مستوى تطلعات طالبي الاستفادة، بحيث رتبت عن هذا التأجيل فوائد
إضافية يتعهد بتحملها المدين الذي يقل قسط قرضه الشهري عن 3000 درهما في القروض العقارية و 1500
درهما في القروض الاستهلاكية [4]،
وهو ما يتنافى مع التدابير المعمول بها
لحماية المستهلك، إذ لا يعقل أن يتم تحميل المدين فوائد إضافية ومُبالغ فيها عن
مهلة ثلاثة أشهر فقط، في الوقت الذي خَول فيه
القانون المغربي للمستهلك إرجاء سداد دينه
لمدة سنتين وبدون فوائد إضافية عن مجرد التأخير !![5]
.
وهو الأمر الذي أثار قلق الجامعة
المغربية لحماية المستهلك حيث نددت في
بلاغ لها[6]: ((أن التدابير والإجراءات المتخذة من
طرف الأبناك لتفعيل تأجيل سداد الأقساط الشهرية تهدف إلى إفراغ البادرة من مضمونها
وتعتبر غير قانونية... وأن إلزام المستهلكين للتوقيع على ملحق العقد يُعدِّل مقتضيات
العقد الأصلي مخالف للقانون وباطل قانونا.. وأن تأجيل سداد الأقساط لا يستدعي
تأمينا إضافيا، ولا يمكن أن يترتب عنه التزامات مالية أخرى ولا يُصادر حق عموم
المستهلكين في الإمهال القضائي.))
تلك التدابير المعلن عنها من طرف
الأبناك كانت محط انتقادات من طرف العديد من الباحثين والمهتمين بالشأن القانوني، من
ذلك ما قاله ذ/ لحسن فرحي الذي استغرب من اقتراح لجنة اليقظة قائلا :((إن المؤسسات البنكية، في
إطار “لجنة اليقظة” التي اقترحت شبه إمهال بناء على طلب المدين – عن ثلاثة أشهر
فقط – لن يكون حلا، سواء بالنسبة للأجراء أو المهنيين أو المقاولات كيفما كانت أنواع
الديون (استهلاكية، عقارية، مهنية، تجارية… إلخ)) [7]
وفي إطار حماية
المستهلك دائما، نجد أن المشرع المغربي سنَّ في مثل هذه الحالات مجموعة من الضمانات تخص المعاملات
التعاقدية المالية، ولعل أهمها الحق في استفادة المدين من الإمهال القضائي الذي
جاء به قانون حماية المستهلك، أي أن المدين يُنظر بمهلة إضافية حتى يتمكن من
استئناف الوفاء بدينه بعدها دون ترتيب أي فوائد عليها، فما هي إذاً طبيعة مسطرة
الإمهال القضائي؟ وما هي الحالات والشروط الموجبة للاستفادة منه؟
أولا: مفهوم
الإمهال القضائي
الإمهال القضائي أو ما
يعرف أيضاً "بمهلة الميسرة" هو تدبير قانوني وقضائي، وضَعه المشرع كضمانة في
إطار حماية المستهلك، ويتمثل في تخويل المدين الذي عجز عن سداد دينه لظروف خارجة
عن إرادته، مهلة وأجلا إضافيا لسداده، أي أن الإمهال القضائي يعتبر فسحة
زمنية تُمنح للمدين في الوقت الذي يُصبح فيه عاجزا عن الوفاء بالتزاماته المالية
لظروف قاهرة لم يكن سببا فيها.
على أي تم
التنصيص على ضمانة الإمهال القضائي بصريح العبارة في المادة 149 من القانون رقم 31.08
الخاص بحماية المستهلك حيث جاء فيها :
((يمكن ولاسيما في حالة الفصل عن العمل أو حالة اجتماعية غير متوقعة أن يوقَف تنفيذ التزامات المدين بأمر من رئيس المحكمة المختصة، ويمكن أن يقرر في الأمر على أن المبالغ المستحقة لا تترتب عليها فائدة طيلة مدة المهلة القضائية.
يجوز للقاضي، علاوة على ذلك أن يحدد في الأمر الصادر عنه كيفيات أداء المبالغ المستحقة عند انتهاء أجل وقف التنفيذ، دون أن تتجاوز الدفعة الأخيرة الأجل الأصلي المقرر لتسديد القرض بأكثر من سنتين، غير أن له أن يؤجل البث في كيفيات التسديد المذكورة إلى حين انتهاء أجل وقف التنفيذ.))
وتم
التنصيص على الإمهال القضائي كذلك في الفصل 243 من قانون الالتزامات والعقود باسم
الآجال المعتدلة، حيث جاء فيه : ((ومع ذلك، يسوغ للقضاة مراعاة منهم لمركز المدين، ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق، أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء، وأن يوقفوا إجراءات المطالبة، مع إبقاء الأشياء على حالها))
يستشف من
خلال قراءة مقتضيات المادتين المذكورتين
أعلاه، أن مسطرة الإمهال القضائي لا تخص فقط طرفي العقد الدائن والمدين، وإنما
يتدخل فيها طرف ثالث هو الجهاز القضائي بمدلول الفصل243 من قانون الالتزامات
والعقود،أو بالأحرى هو رئيس المحكمة كما تنص على ذلك المادة 149 من قانون حماية
المستهلك.
كما
يستشف مما أسلفنا ذكره أن ضمانة الإمهال القضائي خولت للمدين حقوق مختلفة هي بمثابة
مكتسبات مؤقتة بمجرد أن يبث رئيس المحكمة في الملف لصالحه، وهذه الحقوق هي :
1- حق إيقاف
تنفيذ الالتزام: والذي يشكل أولى مراحل مسطرة الإمهال القضائي ويتمثل في
توقف المدين مؤقتا عن سداد أقساطه الشهرية، ما يعني تجميد مؤقت لقوة العقد.
2- حق تأخير
سداد الأقساط الشهرية: وهو إرجاء سداد الأقساط لمدة معينة قد تصل إلى
سنتين.
3- حق الإعفاء
من الفوائد: عدم ترتيب فوائد أو
التزامات مالية عن المدة التي يُمهل فيها المدين.
4- حق إعادة برمجة
الأقساط الشهرية: أي إعادة
تنظيمها بما يتناسب والإمكانيات المادية للمدين، وفي هذا الصدد يرى ذ/ يوسف حنان ((أن
تدخل رئيس المحكمة في مسطرة الإمهال القضائي لا يقتصر فقط على إعطاء مهلة للمدين،
ولكن إضافة إلى ذلك يمكنه تحديد الكيفية التي سيتم بها الأداء عند انتهاء أجل وقف
التنفيذ، بمعنى أنه يتدخل لإعادة جدولة المديونية.)) [8]
طبعا لا تعني هذه الجدولة تغيير جوهر
العقد كالتخفيض من المبلغ الإجمالي للدين مثلا.
وتجدر
الإشارة أن تأخير الوفاء بالدين لا يوجب أي تعويض، شريطة أن يُثبت المدين أن هذا
التأخير ناتج عن أسباب لم يكن له فيها يد حسب مقتضيات الفصل 268 من قانون الالتزامات
والعقود، وهذا يُلجؤنا إلى الحديث عن الحالات والشروط الموجبة للاستفادة من
الإمهال القضائي و دور مؤسسة رئيس
المحكمة في المسطرة.
ثانيا: الحالات
والشروط الموجبة لطلب الاستفادة من
الإمهال القضائي
من المسلم به قانونا أن طلبات الإمهال القضائي لا تحظى كلها
بالقبول، بيد أن سلوك هذه المسطرة يتطلب حلولَ ظروفٍ خاصة ووجود شروط معينة، فمن
غير المقبول عقلا ولا قانونا أن يُترك الأمر على عواهنه ويمنح الإمهال القضائي لكل
من تقدم بطلبه، سواء أكان عاجزا اختيارا أو اضطرارا، وإلا فإن التساهل في منح مهلة
الميسرة سيؤدي لا محالة إلى اختلال السيولة المالية، ومن ثَمَّ تعثر السير العادي
للسوق البنكية.
في نفس
السياق فإن المشرع كان مُوفقا إلى حد ما في التنصيص على بعض الحالات الموجبة لطلب الاستفادة
من الإمهال القضائي، إلا أنه ورغم التنصيص
عليها ظلت مبهمة، بحيث نجد المادة 149 من قانون حماية المستهلك تطرقت إلى حالة الفصل
عن العمل باعتبارها حالة خاصة ومعلومة، وفي نفس الوقت تطرقت إلى حالة اجتماعية
غير متوقعة كحالة عامة وغير معلومة،
فالفصل عن العمل حالة معلومة تثبت بالوثائق الإدارية اللازمة، أما بالنسبة للحالة الاجتماعية
غير الـمتوقعة، فالمشرع تركها غامضة وغير
محددة، وبالتالي ظل تأويل هذه الحالة من اختصاص القضاء، إلا أنه يمكن تعريفها بأنها
الظرف الاجتماعي المفاجئ الذي يؤدي إلى اختلال بنية الوضعية الاجتماعية للفرد كحالة مرَضية مستعصية أو غيرها... المهم أن تؤدي إلى فقدان
الدخل، بمعنى آخر أن هذه الحالات إذا حلت بالمدين لا يُعتد بها إلا إذا توفر فيها شرطان
أساسيان :
أولُهما : إذا كانت سببا مباشرا في توقف الدخل وسببا في دخول المدين في ضائقة
مالية تعجزه عن الأداء.
والثاني
: أن يُثبت المدين أنه حاول دفع هذه الظروف ومقاومتها لكنه عجز عن ذلك.
كما
يشترط في المدين أن يُثبت أنه كان يفي بالتزاماته المالية قبل حلول الظروف غير
المتوقعة ، وذلك للتأكد من حسن نيته، طبعا يظل تكييف وتأويل هذه الظروف والحالات رهينـــاً
دائما بالسلطة التقديرية لرئيس المحكمة.
لكن هل هذه الحالات التي أسلفنا ذكرها هي وحدها المخوِّلة
لطلب الاستفادة من الإمهال القضائي؟ ألا يمكن الحديث عن ظروف وحالات أخرى؟
الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود نجده يتحدث عن
حالات وظروف أخرى مغايرة توجِب توقف تنفيذ الالتزام، حيث جاء فيه: ((القوة
القاهرة هي كل أمر لا يستطيع
الإنسان دفعه كالظواهر الطبيعية (الفيضانات والجفاف والعواصف والحرائق والجراد) وغارات
العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه تنفيذ الالتزام مستحيلا.))
وهذه الأسباب القاهرة هي حالات مذكورة على سبيل المثال لا الحصر بدليل تعقيب
ذكرها بعبارة (يكون من شأنه تنفيذ الالتزام مستحيلا)، وهذا التعقيب هو شرط ومتى وُجد
الشرط تحقق المشروط.
وهنا
نفتح قوسا ونتساءل هل: ترتقي القوة القاهرة - التي تجعل من تنفيذ الالتزام مستحيلا
- إلى سبب موجب للاستفادة من الإمهال القضائي؟ علما أن المادة 149 من قانون حماية
المستهلك لم تتحدث عن القوة القاهرة؟ في هذا الصدد يتساءل ذ/ لحسن فراحي: بقوله : ((هل سيكون من حق
المدينين الذين تتوفر فيهم شروط العجز عن تنفيذ الالتزام الناتج عن القوة القاهرة،
أن يستفيدوا من الإمهال القضائي المنصوص عليه في المادة 149 من قانون حماية
المستهلك بالرغم من ضيق "إطار تطبيقه" مع الأخذ بالقوة القاهرة، ليس من
أجل التحلل من الالتزام، بل فقط من أجل تأجيل تنفيذ الالتزام لسنة أو سنتين حسب
الحالات طبقا لأحكام الفصول 243 و 269 من قانون الالتزامات والعقود ؟.))[9]
في
الواقع فالأمر يشكل محط تساؤلات مختلفة نظرا لغياب نص قانوني واضح صريح ومُحين.
حسب نظري المتواضع أقول : ما دامت
القوة القاهرة تجعل من تنفيذ الالتزام مستحيلا حسب (الفصل 269 من ق.ل.ع). وما دامـت
المادة 254 من نفس القانون التمست العذر للمدين الذي تأخر كليا أو جزئيا عن الوفاء
بالتزاماته المالية، ولم تعتبره في حالة مطل إذا ما أدلى بسبب مقبول، وما دام أن
هذا التأخر يكون بسبب ظروف لم يكن المدين سببا فيها، فإن المنطق القانوني يقتضي
وجوبا الأخذ بالقوة القاهرة كموجب للاستفادة من الإمهال القضائي، وبالتالي فعلى القضاء
ألا يتريث في الأخذ به وإعماله لاعتبارين أساسين:
الأول : أن المستهلك باعتباره
شخصا ذاتيا يمثل الحلقة الأضعف في العلاقة التعاقدية.
والثاني : أن مؤسسات الائتمان (المؤسسات
البنكية) عندما تحل بها أزمة وتشرف على الانهيار... وطبعا تعجز عن الوفاء بإرجاع ودائع
المودِعين، يتدخل صندوق ضمان الودائع حسب مقتضيات المواد 128-129-138 من القانون
رقم 12.103 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، ويقدم لها دعما
ماليا لحمايتها من الانهيار ، ولِيتأتى لها
تعويض المودِعين، فإذا كان ذلك كذلك.. أي إذا كان القانون المغربي يلتمس الأعذار
لمؤسسات الائتمان في عجزها، بل ويدعمها حتى تتجاوز العجز الذي طالها، فلماذا لا يسلك السبيل ذاته مع
المستهلك بالتماس العذر له ودعمه وحمايته في وقت عجزه !!!؟
ثالثا: دعوى
الإمهال القضائي: الاختصاص النوعي، طبيعة المسطرة وشكليات الاستفادة
للاستفادة من الإمهال القضائي يكفي أن يتقدم المدين
بمقال مكتوب - مؤدى عنه الرسوم القضائية ومرفق بجميع الوثائق التي تثبت جدية الطلب،
كشهادة أو محضر رسمي يثبت واقعة الفصل عن العمل، ملف طبي...-، إلى السيد
رئيس المحكمة المختصة بصفته قاضيا للمستعجلات، وهنا لابد أن أفتح قوسا –لا أظن أني
سأغلقه - غايتي من خلاله معرفة المحكمة المختصة نوعيا للبث في طلب الإمهال القضائي، أهي المحكمة
الابتدائية؟ أم المحكمة التجارية؟
إذا كان الاختصاص
المحلي في دعاوى العقود المالية تم حسمه
وجوبا لصالح موطن أو محل إقامة المقترض، طبقا للمادتين 111 و 202 من قانون حماية
المستهلك، حيث جاء في الأولى ((يجب أن تقام دعاوى المطالبة بالأداء أمام المحكمة التابع لها موطن أو محل إقامة
المقترض)).
وإذا كان
الاختصاص القيمي للمحاكم التجارية والمحاكم الابتدائية تم حسمه كذلك بمقتضى المادة
6 من القانون رقم 53.95 الخاص بإحداث المحاكم التجارية، حيث تختص هذه الأخيرة
بالنظر في الطلبات التي تتجاوز قيمتها 20000 درهما، وتم حسمه كذلك بمقتضى الفصل 19
من قانون المسطرة المدنية بحيث تم تحديد الاختصاص القيمي للمحاكم الابتدائية في
حدود 20000 درهما.
فإن هذا
الحسم زاد من تعقيد إشكالية تحديد الاختصاص النوعي للعقود المالية، على اعتبار أن
الموطن أو المحل الواحد المتعلق بالاختصاص المحلي، قد يتنازعه محكمتان مختلفتان من
حيث النوع من جهة، وعلى
اعتبار كذلك أن القروض البنكية قد تقل أو تعادل أو تفوق مبلغ 20000 درهم بحسب
الحالات من جهة أخرى، بصيغة أخرى يسعُنا القول إلى حد ما أن المحاكم الابتدائية
تختص بالنظر في طلبات القروض الاستهلاكية التي تقل أو تعادل قيمتها 20000 درهم،
بينما التي تفوق هذا المبلغ تظل من اختصاص المحاكم التجارية.
وبمطالعة
المادة 5 من القانون رقم 53.95 الخاص
بإحداث المحاكم التجارية نجدها خولت لطرفي
العقد التاجر وغير التاجر حرية الاتفاق على إسناد الاختصاص للمحكمة التجارية في
حالة نشوب نزاع بينهما، يعني أن الأمر مرده حرية الاتفاق بحسب منطوق المادة، إلا
أن طبيعة العقود التي تتعامل بها البنوك تشبه إلى حد ما عقود الإذعان، لأنها تكون
مجهزة سلفا من جهة، وغير مفهومة بل وملغومة بمصطلحات ومفاهيم لا يفقهها المستهلك
من جهة أخرى، وبالتالي فلا مجال للحديث هنا عن الاتفاق الذي تنعدم فيه إرادة
المدين، زد على ذلك أن هذه المادة كأنها تحمل إشارة ضمنية مُبطنة مفادها أن الأصل
في الاختصاص النوعي يرجع إلى المحكمة التجارية، لتزداد حدة الاستشكال مع المادة 4
من مدونة التجارة التي جاء فيها ((إذا كان العمل تجاريا بالنسبة لأحد
المتعاقدين ومدنيا بالنسبة للمتعاقد الآخر، طبقت قواعد القانون التجاري في مواجهة
الطرف الذي كان العمل بالنسبة إليه تجاريا، ولا يمكن أن يواجه بها الطرف الذي كان
العمل بالنسبة إليه مدنيا، ما لم ينص مقتضى على خلاف ذلك))، ما يفهم منه أن
الوكالة البنكية يطبق عليها القانون التجاري باعتبار عملها ذا طابع تجاري وباعتبارها
شخصا معنويا، في حين أن المدين يطبق عليه القانون المدني باعتباره شخصا مدنيا
طبيعيا، وبالرغم من أن هذه المادة تبدو في ظاهرها قدمت توضيحا جزئيا، إلا أنها لم تُمط اللثام عن
إشكالية المحكمة المختصة، واكتفت بتحديد طبيعة المادة القانونية الواجب تطبيقها
عندما يكون لدينا طرفان متنازعان ذوا صفتين مختلفتين.
وعموما
فالمشرع المغربي وإلى حدود تحرير هذه الأسطر لم يُجب بنص صريح واضح عن سؤال تعيين المحكمة المختصة نوعيا في دعاوى العقود
المالية، وظل اللبس يكتنفها، وظل العمل القضائي أيضا متذبذبا في تكييف الاختصاص... تارة
يُكيفها على أنها قضية تجارية صِرفة من اختصاص المحكمة التجارية، وتارة أخرى يكيفها
على أنها قضية مدنية من اختصاص المحكمة الابتدائية باعتبارها ذات الولاية العامة.
ومرد
هذا اللبس والغموض في تحديد الاختصاص النوعي في مسطرة الإمهال القضائي يعزوه ذ/ العربي
الوهاسي إلى ((غموض الطبيعة القانونية للقرض
الاستهلاكي، حيث أن هناك من يعتبره عقدا مختلطا كونه يجمع بين تاجر -المقرض- ومدني -المستهلك-،
وبين من يذهب إلى اعتباره عقدا تجاريا يدخل في إطار العقود التجارية)) [10] .
ولكن
ما دامت طبيعة العقود في هذه المعاملات هي عقود مختلطة فيها طرف معنوي "personne morale" له صفة تجارية وهو الوكالة البنكية من جهة، وفيها طرف طبيعي" personne physique" ذا صفة مدنية وهو المستهلك من جهة أخرى ، وما دام أن
المستهلك هو الحلقة الأضعف في العلاقة التعاقدية، وأن المسطرة المتبعة في المحاكم التجارية معقدة شيئاً ما ومكلفة
عن نظيرتها في المحاكم الابتدائية، وأن مقتضيات المادتين 111 و 202 من قانون حماية
المستهلك قد راعت ظروف المدين، وخففت عنه عبء التنقل إلى المحكمة التي يوجد بها
موطن أو محل الوكالة البنكية، وجعلت من المحكمة التي يوجد بدائرتها محل أو موطن
المستهلك هي المختصة محليا، فإن المنطق يقتضي أن يُسند الاختصاص النوعي إلى
المحكمة الابتدائية، وهذا ما ذهب إليه غير واحد من الباحثين، يقول ذ/ العربي الوهاسي
((ونعتقد أن هذا التوجه هو الأسلم والأنسب لحماية المقترض الذي يبقى قضاؤه الطبيعي
هو القضاء العادي وليس القضاء التجاري الذي مجاله هو المنازعات بين التجار بصدد
أعمالهم التجارية، وأن أصل هذا الخلاف يعود إلى غياب نص تشريعي ينظم مسألة الاختصاص
النوعي في قضايا الاستهلاك...)) [11].
إن صدور
الأمر القضائي القاضي بالاستفادة من الإمهال القضائي لا يعني تغيير جوهر العقد، ولا
يعني فسخ العلاقة التعاقدية وإنهاءَها، إنما هو فسحة زمنية لا تتعدى مدتها السنتين،
يستفيد منها المدين ليتأتى له استئناف الأداء، وهذا ما تناوله ذ/ محمد
بويحي بـقوله: ((أن
استفادة المدين من الإمهال القضائي لا يؤدي إلى انحلال الرابطة العَقْدية بين
الدائن والمدين.)) [12]،
كما أن الأمر القضائي القاضي بالاستفادة من الإمهال القضائي لا يجب أن يَصرف أفهامنا إلى القول أنه يُسقط
حق المدين في المطالبة به مرة ثانية متى توافرت فيه الشروط والحالات سالفة الذكر،
فالمشرع المغربي لم يحدد عدد مرات
الاستفادة منه، وبالتالي للاستفادة مرة ثانية من هذه الميسرة يظل الأمر من جهة أولى مقيدا بالشروط والحالات الموجبة له، ورهين
بالسلطة التقديرية لرئيس المحكمة المختصة من جهة ثانية.
وجدير بالذكر أن مسطرة الإمهال
القضائي لا تشكـل خرقا للقاعدة الأساسية "العقد
شريعة المتعاقدين" المنصوص عليها في الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود بقدر ما هو تخصيص لعام وتقييد لمطلق، في هذا السياق يرى ذ/ زكرياء الزنايدي: ((أن مبدأ سلطان الإرادة
المتمثل في أن العقد شريعة المتعاقدين لم يعد قاعدةً مطلقة وأن قانون حماية
المستهلك قيدها.)) [13].
وحاصل القول في هذا الموضوع أن مسطرة الإمهال القضائي
تعتبر بمثابة متنفس قانوني، ومحطة استراحة قضائية للمستهلك الذي ضاقت به السبل وأرغمته
حالته الاجتماعية أو القوة القاهرة على عدم تنفيذ مضامين العقد، إلا أنه في حقيقة
الأمر أن جل المستهلكين -إن لم نقل كلهم- ليس لهم علم بوجود هذه المسطرة أصلا، فإذا كان للوكالة
البنكية ممثلها القانوني يرشدها ويتولى شؤونها القضائية، فإن القانون سالف الذكر
نص على تأسيس الجمعيات المغربية لحماية
المستهلك، ونص على شرط ترقيتها إلى جامعة بعد أن تتكتل فيما بينها ويُعترف لها
بصفة المنفعة العامة، كما أوكل لها بمقتضى
المادتين 152 و157 مهاما سيادية كالإعلام والدفاع عن المستهلك والنهوض بمصالحه، بل وأن تَرفع
دعاوى قضائية، وأن تتدخل في دعاوى جارية، وأن
تُنصِّب نفسها طرفا مدنيا أمام قاضي التحقيق، للدفاع عن مصالحه، وتمارس كل الحقوق المخولة للطرف المدني والمتعلقة بالأفعال والتصرفات التي تلحق ضررا بالمصلحة الجماعية للمستهلكين. غير
أنه بالرغم من كل المقتضيات القانونية المتقدمة يظل المستهلك دائما في وضعية
هشاشة اجتماعية وغفلة قانونية لم يكن سببا فيهما.
شاهد تقريرا عن الموضوع على يوتوب :
[4] حسب
مخرجات الاجتماع السابع للجنة اليقظة الاقتصادية منشور بالموقع الرسم لوزارة
الاقتصاد و المالية و إصلاح الإدارة
[10] مقال بعنوان "الاختصاص القضائي في منازعات القروض
الاستهلاكية" منشور بالموقع الإلكتروني maroclaw.com
[12]
مقدمة لرسالته الجامعية "الإمهال القضائي بين القواعد العامة وقانون حماية
المستهلك" -منشورة موقع maroclaw.com
[13]
مقال له بعنوان "دور رئيس المحكمة الابتدائية في حماية المستهلك"-منشور
بالموقع الإلكتروني sajplus.com
رموز انفعاليةEmoticon