واقع مسطرة الصلح بالقضاء الأسري
وموقع المساعد(ة) الاجتماعي(ة) منها
بقلم : ذ.محمد العبدلاوي
باحث في قضايا الأسرة
شرع اللـه سبحانه الزواج للدوام والاستقرار، ونظمه الإسلام أيما تنظيم،
وأحاطه بسياج من التوجيهات والأحكام التي تضمن نجاحة، فكل ما من شأنه أن يعكر صفوه
نبذه الشرع إلا في الحالات المستعصية التي يصبح فيها الطلاق أفضل من استمرار
الزواج الفاشل، ومن المعلوم أن ثمرة الزواج المساكنة والمعاشرة بالمعروف في جو
يسوده الوئام والود لقوله تعالى {ومِن آياتِه أَنْ خَلَق لكم من أنفسِكم أزواجاً
لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً} فإذا
لم يتحقق هذا المطلب الضروري في الحياة الزوجية، بأن حصل تنافر وساءت العشرة بين
الزوجين وأبغض كل منهما الآخر، فقد شرع اللـه لهما إنهاء الوثاق الذي بينهما كحل
أخير بعد استنفاد جميع آليات الاستمرار دون نتيجة مرضية، فالزوج مأمور إذا كان
النفور من جهته ألا يضيق على زوجته بإيذائها أو منعِها حقوقها ليُلجِئها لتطليق
نفسها اضطرارا قال تعالى { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وقال أيضاً {ولا تُضارّوهن لِتُضيِّقوا عليهن} والزوجة كذلك مأمورة من جهتها بالصبر على ما تجده من
عنتٍ لا يخلو منه بيت.
وعلى غرار
الشريعة الإسلامية اعتنى التشريع المغربي بكيان الأسرة، بإدماجه المقاربة
التصالحية في خطوة جد إيجابية لتمكين الأسرة من التقاط أنفاسها في الرمق الأخير، وللحيلولة
دون العصف بها لأوهى الأسباب ـــ في الغالب ـــ ، حيث نصت المدونة في المادة 82
على أنه بإمكان القاضي المكلف بالطلاق الاستعانة بكل من تراه المحكمة مؤهلا
للإصلاح بين طرفي النزاع، ويدخل تحت هذا العموم المساعدون الاجتماعيون القضائيون، وتجد هذه المهمة سندها القانوني كذلك في المادة 96 من المدونة
التي تنص على إمكانية إجراء بحوث إضافية للصلح بالوسيلة التي تراها المحكمة ملائمة
إذا اختلف الحكمان في مضمون التقرير أو تعذر عليهما إنجازه في المدة المحددة لهما، فعلى القاضي أن يبديَ تجاوباً في الموضوع من خلال انتداب
المساعد الاجتماعي لإجراء محاولة الصلح أو التعاون مع باقي المتدخلين - في المحاكم
التي لا تتوفر على مساعدين اجتماعيين- لحل الخلاف بين الزوجين، غير أن بعض القضاة ــ
أقول البعض ــ لا يستجيبون لمضمون النص السابق ويستعظمون الأمر الذي يرون فيه
تفويتا لشيء من صلاحياتهم الموسعة أو تضييقا لحدودها، وواقع الحال يفرض أن يتشارك القاضي
مع المساعد الاجتماعي لإيجاد حل وإن اقتضى الأمر تضافر كافة الجهود قاض أو مساعد
اجتماعي أو إمام مسجد... أو غيرهم، فعندما يتعلق الأمر بمؤسسة الزواج الذي وصفه
المولى جل وعلا بقوله {وأخذن منكم ميثاقا غليظا} يجب الحذر كل الحذر من تمييعه، إذ يكتفي بعض القضاة
بعرض الصلح على الطرفين دون محاولة جادة منهم لإنجاحه، وأتساءل : ألا يستشعر هؤلاء
حجم هذه المعضلة - أعني التطليق بالأساس- التي تتزايد أعدادها عاما بعد عام ؟ وقد
تكون سببا لأن تتفرع عنها العديد من الظواهر الاجتماعية الأخرى التي لا تقل خطورة،
فيتشرد الأطفال نتيجة التفكك الأسري، وينحرفون مع ما يصاحب ذلك من إدمان للمخدرات
نتيجة الحرمان العاطفي، وينقطعون عن الدراسة جراء الفقر، لأن قِلَّة قليلة من
الأحكام القضائية هي التي تشق طريقها للتنفيذ، ثم قد تلجأ المطلقة إلى التسول أو
بيع الهوى بسبب الفاقة أيضا وقلة الحاجة، أو ربما لا تصبر على مفارقة الحليل فتتخذ
لها خليلا أو أكثر يشبعون نزواتها بِعوَض من المال أو بدونه، ولا يُستبعد أن يكون
خليلها أيضاً ضحية تجربة زواج فاشلة مُرهِقة ماديا ومعنويا، أو شاباً غير قادر على تكاليف
الزواج فوافق شن طبقه، واتخذا من بعضهما متنفسا لإشباع الرغبة الجنسية خارج إطار
الزواج، لا سيما أن النظام الاجتماعي توسع في مفهوم الحرية الشخصية، وقد لا تبالي أو تحتاط من الحمل والإنجاب خارج نطاق
الزوجية، ما دامت مسطرة المتابعة لا تُحرّك إلا في حالة التلبس أو بطلب ممن له
الصفة أو المصلحة، وكذلك لأن دُور الأطفال المتخلى عنهم تفي بالغرض إلى حد ما.
والبعض الآخر
من القضاة يباشرون الصلح بأنفسهم، ويحملهم على ذلك ضُلوعهم وسعة اطلاعهم ورسوخ
أقدامهم في حقل القضاء وموسوعية خبرتهم في مجال الاستماع، هؤلاء يقولون : (( لماذا
يستمع لهما المساعد الاجتماعي أو إمام المسجد أو... وما دوري أنا في الملف ؟ فلن
يكونوا بأقدر مني على رصد الخلل)) ، فأقول قد يمُن اللـه على بعض عباده فيحقق ما
عجز عنه غيره في مواطن كثيرة، فما يوجد في النهر قد لا يوجد في البحر، ومن القضاة
من يباشر الصلح بنفسه لأنه لا يرضى أن يسبقَه إلى فضيلةٍ غيرُه، وهذا طاعون.. من
آفاته ترك العلاج أو تأخيره أو التغافل عنه لأن الآخر هو من توصل إليه، ومصيبة هؤلاء أنهم تعلموا مظهريات العلم
قبل الأدب فزلوا ثم ضلوا، فيلزمهم التفريق بين الذات والموضوع، وأن يقبلوا الحق
أيّاً كان قائله، قال صلى اللـه عليه وسلم (الكِبْر بَطَرُ الحق وغَمْط الناس) بطر
الحق أي رَدُّه، وغمط الناس أي احتقارهم، واسمع إلى الإمام الشافعي رحمه اللـه إذ
يقول ((ما ناظرت أحدا إلا ولم أبالي على لسان أيٍّـنا ظهر الحق))، وبدورنا نقول
كلنا يد واحدة لترميم ما يمكن ترميمه ولا يهم على يد من تم الصلح.
ومن القضاة
كذلك من يتحاشى التوسع في تأويل المادة 82 من المدونة ـــ وغيرها مما يُؤصِّل عمل
المساعد الاجتماعي ككل ـــ وبالتالي لا يُشْرِك المساعد الاجتماعي في مهمة الصلح
في قضايا الطلاق أو التطليق، محتجا بكون النص القانوني لا يسعفه في ذلك، ولو لم
يوجَد في المدونة إلا المادة 400 ـــ التي تفتح باب الاجتهاذ على تعاليم الإسلام
السمحة فيما ليس فيه نص ـــ لكانت كافية في الرد على المتشبثين بالتقليد،
المتهيِّـبين خوض كل جديد، لذا وجب تأهيل القضاة في مجال العلوم الشرعية ليكونوا
عند مستوى التكليف وعند حسن ظن المشرع بهم، ومن النصوص التي تشكل الأساس الذي عليه
قواعد البنيان، قوله تعالى {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا
جناح عليهما أن يصّالحا بينهما صلحا}، فتأمل
كلمة "صلحا" في الآية تجدها نكرة بعد "إِنْ" الشرطية، والنكرة
في سياق الشرط تفيد العموم، أي كيفما كان نوعه أو نتائجه، إلا أن يُحرّم حلالا أو
يُحِلّ حراما فإنه آنذاك لا يقبل، ومن صور الصلح الجائز أن تتنازل الزوجة مثلا عن
حقها في النفقة أو عن حقها في الفراش مقابل أن تبقى في عصمة زوجها كما هو ثابت في
السنة من قصة أم المؤمنين سودة بنت زمعة لما ظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم سيطلقها تنازلت عن ليلتها لعائشة رضي الله عنها لتضمن بقاءها في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وتكون زوجة له في الدنيا والآخرة، لأن مما هو مسلم به في قواعد الفقه أنه عند تعارض مفسدتين تُدفع أعلاهما
بارتكاب أخفهما، وقد أشارت المدونة إلى هذا المعنى في المادة 70 ، إذن فحفظ تماسك
الأسرة فوق كل الاعتبارات سواء أكانت شخصية أو إجرائية.
إشكالات
مسطرة الصلح في الواقع العملي "مقارنة"
رغم أن المشرع حرص على إجراء الصلح بين الزوجين طبقا للمواد 82 و96 من
مدونة الأسرة، بل وجعله إجراء جوهريا في جميع قضايا الأسرة بمقتضى منطوق الفصل 180
من قانون المسطرة المدنية، إلا أن العمل القضائي يشهد بخلاف ذلك، وقبل الشروع في تقريب الموضوع أتمنى أن لا أبدوَ كالذباب الذي لا يقع
إلا على
خُبث، فأقول وباللـه التوفيق : أُولَى عراقيل
إنجاح الصلح : الفضاء نفسه، فلئن كان المشرع ألزم القاضي بإجراء الصلح بغرفة
المشورة، فإنها مع ذلك ليست فضاء خصبا لإنجاحه، لأن جلسة البحث المغلقة المنعقدة بها
ليست للصلح بكل ما يعنيه المفهوم من حمولة، رغم أن النص القانوني يومئ إلى ذلك،
إنما هي للاستماع للطرفين على مهل، والاطلاع على أسباب طلب التطليق، ومعرفة من
المتعسف في إيقاعه، والاطلاع على حجج الطرفين ومدة الزواج والتأكد من الوضع المادي
للزوج والتزاماته المالية، وكل ما يتعلق بالأبناء من عقود ازدياد وشواهد مدرسية...
وكلها نقط تفيد القاضي في تقدير الحقوق الناتجة عن الطلاق (الحضانة، المتعة،
النفقة ...إلخ)، وإجمالا هي محطة مهمة لفرش الحكم وتأثيثه بناء على طرح أسئلة
معينة وانتزاع اعترافات من الأطراف بشأنها، ثم مقابلة بعضها ببعض، فالقاضي في جلسة
البحث وأثناء تخيُّر الأسئلة والتقاط الأجوبة إنما يستحضر لأجل ذلك النتيجة (تحييث
الحكم) لا اللحظة (إجراء الصلح)، خلافا لجلسة الصلح المجرى بواسطة المساعد
الاجتماعي، لا يُشترط فيها إعادة استقصاء تصريحات الأطراف ما يُتيح فسحة زمنية أكبر
للصلح دون انشغال بغيره، ولِـما للتدقيق في الجزئيات التي مرت معنا آنفا، من إهدار
للجهد واستهلاك للوقت، ناهيك عن أنه ليس من اختصاص المساعد الاجتماعي أصلاً، وإذا
ما حدث فلأجل تلمس نقط محورية أُغفِل التطرق إليها في محضر جلسة غرفة المشورة
والهدف من كل ذلك تنزيل الأمور منازلها، ثم إن جلسة البحث لا توفر الاستماع
للطرفين على انفراد، لأنها تضم القاضي المقرر وكاتب الجلسة والطرفين ووكيلاهما،
بخلاف جلسة الصلح التي يعقدها المساعد الاجتماعي في مكتبه، تتيح الاستماع للطرفين
كل على حدا إن اقتضت الأحوال ذلك، وتوفر الحميمية والكتمان، فتلين قلوبهم، وتتحرك
أحاسيسهم ومشاعرهم، وتصدع بالحقائق ألسنتهم، ما يمكِّن التعرف على حقيقة وضعهم
الاجتماعي، ثم إن جلسة البحث كذلك تفتقر لعنصر جوهري، ألا وهو إعطاء الوقت الكافي
للاستماع للأطراف بتأن وروية، فضيق الوقت المخصص لجلسة غرفة المشورة، وتعدد مواضيع
القضايا التي يكلف القاضي بالبث فيها، وتداخل مواعيد جلساتها تكون أقوى من كل
اعتبار، الشيء الذي تصبح معه الجلسة الصُّلحية إجراء شكليا صوريا روتينيا يلزم
سلوكه لئلا يقع الحكم عرضة للإبطال، ثم إن من مزايا الإصلاح بواسطة المساعد
الاجتماعي إرجاؤه (الضمير يعود إلى الإصلاح) إلى جلسة ثانية وربما ثالثة إن دعت الضرورة،
فليست الغاية تحرير محضر إنما الغاية الصلح في حد ذاته، وهذه النقطة لم يلتفت
إليها المشرع إلا في حالة وجود أبناء، فتعقد المحكمة آنذاك جلستين على أن تفصل
بينهما بمدة لا تقل عن ثلاثين يوما، وفي هذا زيادة اهتمام بمصلحة الطفل استجابة
للاتفاقية الدولية التي تحث على ذلك، ونحن نقول هذا الغصن من تِلكم الشجرة، وحفظ
تماسك الأسرة يشمل حفظ حق الطفل تضمناً، أما بحث غرفة المشورة فغاية القاضي أن
ينظر في توصل المدعى عليه وهل تم داخل الأجل القانوني أم لا فإن تثبت فلا يهمه
أحضر أم لم يحضر ـــ إلا ما استُثني بمقتضى المادة 81 من المدونة ـــ يكفيه الاستماع
للطرف المدعي فقط، بعد ذلك يحيل الملف على النيابة العامة للإدلاء بمستنتجاتها
الكتابية لأنها طرف أصلي في كل الدعاوى التي تعرض على قضاء الأسرة، بعد ذلك يدرج
الملف بجلسة الموضوع للتأكد من جاهزيته وتأكيد الطلب من طرف المدعي ثم يحجز
للمداولة، كما تلاحظ قد يستجاب لطلب التطليق حتى ولو لم يحضر الطرف المدعى عليه أي
جلسة، وقد يكون تغيُّبه لظرف قاهر كالمهاجرين مثلا، لذا نُبعد النهج أكثر ونطالب
بتعيين المساعدين الاجتماعيين بالسفارات والقنصليات لمباشرة مهمة الإصلاح بين
الزوجين المقيمين بالخارج الذين تعذر عليهما الحضور، سواء قبل تقديمهما الطلب بأرض
الوطن أو بعد رجوعهم لمواطن إقامتهم للقيام بالصلح الثاني في حال وجود أبناء.
ما أوردناه
إلى حدود الساعة إنما نصف به الواقع أي ما هو كائن، وفي ما يلي سنصيب جزءا مما يجب
أن تكون عليه المساعدة الاجتماعية.
ومع الإشكالات
دائما نقول : أن المفترض في مسطرة الصلح أن تكون استباقية لمعالجة الوضع، وليس بعد
تسجيل دعوى الطلاق، فعند نشوب خلاف زوجي لا يُلجأ أولَ ما يُلجأ إلى الطلاق ؟ كلا،
قال تعالى : {فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله
وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق اللـه بينهما}، إذن اختيار الحكمين إنما يكون خشية الشقاق، أي قبل نشر الدعوى أمام
القضاء، وليس بعده كما هو الشأن في المحاكم حاليا، ومهمة الحكمين هي محاولة علاج
الأمور بِحَث كل طرف على تقديم تنازلات من جهته للدفع بعجلة الصلح للأمام، لكن إذا
كان الخلاف مستحكما، وفشل الحكمان في تأليف القلوب، وهو المشاهد للأسف من استقراء
تقارير الحكمين، فنقترح ـ ما دام اختيار الحكمين لا يشترط فيهما قرابتهما للطرفين
إنما ذلك للاستحباب ــ حيث هما أدرى من غيرهما بمكامن التوفيق ـ وأيضاً ما دام الصلح
الذي يجريه المساعد الاجتماعي أثناء سريان الدعوى لم يثمر ما كان منتظراً منه ــ للأسباب
التي فصلناها أعلاه وسنأتي على مزيد منها لاحقا...
قلت : أقترح
أن يُعهد بهذا الأمر الجَلَل "أي الصلح" للمساعد الاجتماعي القضائي، ليس
بالطريقة التقليدية المعتادة، ولكن من خلال الانتقال لموطن الزوجين ـــ دور
الحكمين تماماً ــــ ، وبحث سبل الإصلاح قبل تقديم الطلب للمحكمة، سيرِد علينا
إشكالٌ مفاده : بأيِّ صفة من حقه أن ينتقل إليهما ؟ أقول هذا ما ينبغي إضافته إلى
طبيعة اشتغال المساعدين الاجتماعيين القضائيين، ويتمثل في عزل مؤسسة المساعدة
الاجتماعية في منشآت مستقلة في تسييرها عن المحكمة، وإلزام الأطراف المقبلين على
إنهاء العلاقة الزوجية بينهما باللجوء إليها ابتداء، فإن تعذر تحقُّق هذا المقترح
ولم يوجد له مساغ لسبب أو لآخر، أمكن مطالعة الاقتراح الثاني الذي يتمثل في إلغاء
حالة التنافي في ما يتعلق بالمزاوجة بين العمل الحكومي والعمل الحر... فلا مانع من
أن يكون للمساعد الاجتماعي القضائي مكتب للإرشاد الأسري خارج المحكمة ويتقاضى
أتعابه من الأطراف مباشرة في مثل هته التدخلات التي تكون قبل التقاضي، وما يدعم
القول بوجوب إجراء الصلح بعيدا عن فضاء المحاكم عدة أمور :
أولا :
كذب الأطراف المتنازعة في التصريحات
وغالبا ما يكون المعتدي الشيء الذي لا يعكس الصورة الحقيقية لوضعهم الأسري، لأن
الصدق من شأنه أن يثقل كاهله ويبدي للقاضي حقيقةً أنه متعسف أو مستهتر، فيرتِّب
القاضي بناء عليه تضخيم المستحقات، وقد يطالب المتضرر ليس بتعويض عن الضرر فحسب،
بل حتى بمتابعة المعتدي أمام النيابة العامة، ولن يجد صعوبة في الإثبات لأن
المشتكى به أقر على نفسه في جلسة البحث، وأنا أقول ما الباعث له يا ترى على الصدق
؟ أهو الأجر والثواب وابتغاء مرضاة اللـه !؟ لو كان ذلك كذلك لعالج الأمر وديا واتفاقيا
مراعيا المعروف والإحسان المأمور بهما، وقد لا يكون لمن التزم الكذب طيلة الدعوى
أي يد في ذلك، ولكن لُقِّن عناصر الإجابة ممن له خبرة، إذن كيف تريد من المساعد
الاجتماعي ــ وهو آخر حلقة في سلسة الدعوى قبل حجزها للمداولة ــ أن ينجح في
الصلح !؟ فلن يهدم الكاذب مطلقاً كل ما بناه منذ تقديم الطلب إلى جلسة يومه، ولا حق
لقاصري النظر في اتهام المساعد الاجتماعي بالفشل في قضايا الصلح التي باشرها لأن
ذلك خارج عن حدود طاقته، وصراحة وبكل حرقة يَسَعُني القول أنه أُسيء إبراز مؤسسة
المساعدة الاجتماعية كما ينبغي أو هكذا أريد أن تَبْرُز.
ثانيا
: عدم الاستعداد الذهني ولا النفسي للتصالح، فبناء على ما سبق من كيل الأكاذيب والتراشق بالاتهامات بين الطرفين طيلة
مجريات الدعوى، تستحوذ الطاقة السلبية على أفكارهما، ويصبحان عاجزَين عن تصويب
قراراتهما، مبتغى كل منهما
إما الخروج بأقل الخسائر أو أكثر الغنائم، بغض النظر عن سُبل تحصيلها لأن صاحب
الحاجة أعمى، بل وتجد كلا منهما يُحاجِجُك ويُبرِّر فعله ملتمسا مَخرجا منطقيا
لسلوكه الخاطئ، لذلك يَصعب بحق الجمع بين المتناقضين، ومما يعمق الهوة بينهما
أكثر.. عدم تقبل الزوج ولوج أعتاب المحكمة بسبب زوجته التي اضطرته لذلك، من خلال
مقاضاته عن النفقة مثلا، فيرى في ما أقدمت عليه جريمة لا تُغتفر، والحال أنه كان
يلزمها استشارة مساعد اجتماعي قبلُ، يستدعيه ويناقشه ليس تحت مظلة القضاء ولكن تحت
مظلة العمل المدني الحر بعيدا عن أروقة المحكمة.
ثالثا
: اعتبار المساعد الاجتماعي مُصلِحاً وشاهداً في نفس الوقت وهذا لا
يستقيم، إذ ليس باستطاعته أن ينجح في محاولات الإصلاح التي يجريها إلا ما نَدُر،
والنادر لا يقاس عليه، لماذا ؟ لأنه بهذا لن يكون محل ثقة عند الأطراف الذين يرون
فيه حاملا لقلم، ومؤديا لقسم، وشاهدا على أقوالهم، وبالتالي سيتحرجون من نقض ما
أدلوا به، وسيتحفظون على الكثير من التصريحات لخشيتهم من افتضاحهم أمام القاضي
المكلف بفض النزاع، بخلاف ما إذا كانت المعالجة قبل التقاضي وبعيدة عن المحكمة،
سيطمئنون وسيطرحون كافة الأوراق، لأنهم ما جاء بهم إلا الاستبشار بالصلح، هذا من
جهة ومن جهة أخرى سيضمنون أن الخبايا الدفينة التي أفرغوها في مواجهة بعضهما البعض
لن تبرح خلية الإرشاد الأسري ولن تجاوزها إلى المحكمة في حال فشل الصلح.
رابعا
: الاستهانة بمؤسسة المساعَدة الاجتماعية من طرف بعض القضاة
من خلال تحديد تواريخ جلسات المساعد الاجتماعي، أو إحالة كم هائل من القضايا وعدم
إعطائه أجلا معقولا بين جلسة الصلح وتاريخ الإدراج المقبل الشيء الذي يعوق إجراءه
ــ أي الصلح ــ بالكيفية المرضية، بل أكثر من ذلك لا تعتبر جلسة الصلح المجرى
بواسطة المساعد الاجتماعي حتى من الشكليات التي ينبني عليها "عدم
القبول" فسواء حضر الأطراف أم تخلفوا عن الجلسة المعنية لا يؤثر ذلك في
مجريات الدعوى، الهدف هو إقحام الإحالة على المساعد الاجتماعي في تحييث الحكم
النهائي.
خامسا
: عدم إلزامية الأخذ بتقارير المساعد الاجتماعي فللقاضي كامل
السلطة التقديرية في اعتمادها أو استبعادها ما دام الهدف منها الاستئناس كما
يقولون، وهذا ليس محصورا على تقارير الصلح فقط ولكن يشمل عمل المساعد الاجتماعي
ككل، الشيء الذي يدُلُّك على أن هته المؤسسة، وإن كان لها بالمحاكم وجود لكن ليس
لها تواجد، وليس لعملها أي قيمة أو فاعلية تذكر، فنطمح أن ترقى وتنحُو نحو قرينتها
في الدول الغربية المصدرة لها، وما دامت كذلك فالاستقلالية هي المخرج من عنق
الزجاجة، قد لا يكون تحقيق هذا أو ذاك بالأمر الهين ــ يعني الإلزام أو الاستقلال
ــ فأضعف الإيمان أن يُحفظ حق المساعد الاجتماعي في أن يَطعن في الأحكام التي تم
فيها تجاوز مؤسسة المساعدة الاجتماعية أو استبعاد تقاريرها، وسيشهد العمل القضائي
آنذاك نقلة نوعية جِدية، والحاجة جد ملحة لما ندندن حوله لأن عمل المساعد الاجتماعي
مجهود وانتقال مدفوع من خزينة الدولة وأحيانا أخرى من جيوب المتقاضين، واستهلاك
للطاقة والوقت... فلا يعقل أن يُختزل كل ذلك في كلمة استئناس.
سادسا
: تَوسّع المحكمة في الاستجابة لطلبات التطليق للشقاق مع العلم أن مجرد ادعاء الشقاق لا ينهض دليلا كافيا على
قيامه فعلا، وبالتالي المفترض افتقاره للإثبات الذي يقع على عاتق مدعيه طبقا للفصل
399 من قانون الالتزامات والعقود، لكن الواقع العملي شيء آخر تماماً، فيكفي
للاستجابة للطلب الثبات على نفس التصريحات طيلة مجريات الدعوى، بمعنى أن طالبي
التطليق للشقاق يُشترط لقبول طلباتهم التمسك بعدم رضاهم باستمرار الزوجية تحت
طائلة عدم قبولها عند ثبوت العكس، وفي هذا الصدد صدر عن المحكمة الابتدائية
بأكادير حكما قضائياً قضى بعدم قبول طلب التطليق للشقاق، وعللت المحكمة موقفها هذا
بالقول : ((وأنه وأثناء إجراءات الصلح صدرت عن المدعي أفعال تؤكد رضاه الضمني بأنه
مستمر في العلاقة الزوجية...))، وهل بهذه النتيجة تكون المحكمة حققت المطلوب ؟
مطلقاً لا، لأنه سَيُعيد طلباً آخر وسيتفادى ما كان سببا في وأد دعواه الأولى،
وسَيُستجاب لطلبه من دون شك، فأين إثبات الشقاق يا ترى ؟ من أجل ذلك، نرى تدخل
المساعد الاجتماعي قبلُ، أولا : للتقليل من حالات التقاضي ـــ ما دامت دعاوى
التطليق للشقاق أضحت علامة مميزة لفصم عرى الزوجية بأسهل الطرق وبأقل التكاليف
خصوصا من جانب المرأة ـــ وثانيا : بغية القيام بالصلح كما يجب بدل تصيُّد مدعي
الشقاق وإجهاض طلبه.
وأستسمح
القارئ الكريم هنا لإيراد قوس مُلتهب ويتمثل في طلبات التطليق التي بلغ إلى علم
المحكمة أن الزوج طلق زوجته قبل مجيئهما إما باللفظ أو بالكتابة "رسالة نصية
مثلا"، خارقا بذلك المادة 78 من المدونة التي تفرض الرقابة القبلية للقضاء في
ممارسة حق الطلاق، فمحاولة الصلح التي تجريها المحكمة قبل البث في الطلب تبقى لا
معنى لها، لأن الطلاق واقع حكما، ودور المحكمة ليس هو إمضاء الطلاق أو رفضه، ولكن
صلاحياتها تنحصر في النظر في ما يترتب عن انحلال ميثاق الزوجية من نفقة وسكنى خلال
العدة وحقوق الأبناء إن وجدوا... إلخ، أما ما جرى عليه العمل في المحاكم من
محاولات الصلح إنما هو ارتباك في تنزيل النصوص، بل أكثر من ذلك هو تكريس لعلاقات تكتنفها
شبهة بعد الإصلاح بين الزوجين، ويتمثل دور المساعد الاجتماعي في هذه النقطة بحث
الزوج ــ قبل التقاضي طبعا ــ على مراجعة زوجته وديا أثناء العدة بإشهاد يحرره
المساعد الاجتماعي ويوقعه إلى جانب الزوجين وتعتبر رجعةً لا صلحاً، وتحسب طلقة
واحدة وإن لم يصدر بها حكم قضائي، لأنها مسائل تعبدية بالدرجة الأولى تستوجب
الوفاء بها، وننبه أن طلب التطليق الذي تقدمه الزوجة لا بأس قبل البث فيه من إجراء
محاولة الصلح لأنها لا تملك العصمة في الطلاق إلا إذا ملكها زوجها هذا الحق.
إن آكَــدَ نتيجة يمكن الخلوص
إليها بعد استعراضنا لما سبق، تتمثل في البَوْن الشاسع بين التنظير القانوني
والواقع العملي، فإذا كان المشرع المغربي قد حرص كل الحرص على اعتماد المقاربة التصالحية
في النظام الأسري، لما لذلك من أهمية كُبرى تتجلى أساسا في حفظ تماسك الأسرة،
والنأي بها عن ما يمكن أن يسحبها إلى التضعضع ثم الزوال، فإن الواقع العملي أثبت
عدم نجاعة المقتضيات القانونية المنظمة لمسطرة الصلح بما فيها مؤسسة المساعدة
الاجتماعية القضائية، نظرا للإشكالات الشكلية والموضوعية التي تكبح إجراءه بشكل
ناجح، والحل في نظري المتواضع يكمن كما أسلفت في عزل مؤسسة المساعَدة الاجتماعية
في مُنشآت مستقلة عن فضاء المحاكم، ونزع اختصاص الصلح من قاضي الحكم جملة وتفصيلا،
وإعطائه للمساعد الاجتماعي، طبعا سينبري من يستصغر هذا الأخير بدعوى أنه أخذ أكثر
من حجمه ـــ وليس ذلك بعجيب لأن قلوب العباد جُبِلت على تعظيم القاضي واحتقار كاتب
الضبط، على تعظيم الطبيب واحتقار الممرض، على تعظيم المهندس واحتقار التقني... ـــ
وعلاج مثل هته الأدواء يكمن في الرجوع للذات والتأمل بعين السخط...
لأن عينَ الرضى عن
كلِّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكن عينَ السخط تُبْدِي الـمَساوِيَا
قلت التأمل ومن ثم الاشتغال
على إنسانية الإنسان، لأن معيار التفاضل بين هذين بما يبذله ويقدمه كل منهما من
عمل، وجوابا على ما سبق نقول : إن مشروع التنظيم القضائي الجديد نص على تفريعات
عدة في اختصاصات القضاة من بينهم قاضي الصلح، ولن يكون إلا مساعدا اجتماعيا ــ إذا
ما أنصفنا ــ ولا داعي للاستغراب فيوجد من الدول الغربية من تعتبر القضاء
مَشْيَخَة وتجعل أهم شرط لِوُلوج سلك القضاء "عمل مدة محترمة في جهاز كتابة
الضبط" فلا يُسمح لخريجي الجامعات بِتَقحُّم هذا الخِضَم الوعْر للوهلة
الأولى، هؤلاء الذين لم يُجاوز أنجبهم ثلاث سنوات في التحصيل القانوني طيلة مساره
الدراسي كاملا، أما قضية التكوين فليست حجر عثرة، ومتجاوزة بحول اللـه، فمن
الضروري أن يخضع المساعد الاجتماعي "مشروع قاضي الصلح مستقبلا" إلى
تكوين متشعب يزاوج المقاربة الاجتماعية مع النصوص القانونية دون إغفال العلوم
الشرعية.
وختاما تأتي مساهمتنا هته
في إطار الإحاطة ولو بجزء يسير من التصور الشمولي لمؤسسة المساعدة الاجتماعية،
التصور الصادر عن أهلها لأن صاحب الدار أدرى بما فيها، فلكل فن رجاله، وكفى حجراً واعتداء على التخصص واستـئثارا بالقرارات الفوقية التي لن
تنتج إلا أفكاراً معاقة إذا ما تم تغييب المعنيين بالأمر، فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون، وعلى كل حال يبقى العمل برمته وجهة نظر لا تخلو من نقائص، سبيل
تقويمها مقارعتها بضِدها في حلبة صراع الأفكار والصمود حتما للأجود، فإما أن نبني
مؤسسة للصلح بناء متينا أو أن ندع الأمور لأهلها.
رموز انفعاليةEmoticon