رتق الفتق في المُبرر الموضوعي للتعـدد
إعداد : ذ. محمد العبدلاوي
بـاحث في قضايا الأسرة
لم يكن إقرار مدونة الأسرة في المغرب بالأمر الهين، فقد واجهت جدلا كبيرا انخرطت فيه كل فعاليات المجتمع انتهى باللجوء إلى التحكيم الملكي، وقد شكل موضوع إصلاح المدونة أبرز محاور خطاب جلالة الملك بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية السابعة والذي اعتُمد جزء كبير منه ديباجة لمدونة الأسرة، ومن بين المستجدات الهامة التي أتت بها اشتراط المبرر الموضوعي الاستثنائي للإذن بالتعدد المنظم بمقتضى المواد من 40 إلى 46 من القانون 70.03 ، ولعل ما ذُكر في تصدير المدونة يفسر لنا علة تشريع هذا الشرط حيث جاء فيه : (( فيما يخص التعدد، فقد راعينا في شأنه الالتزام بمقاصد الإسلام السمحة في الحرص على العدل، الذي جعل الحق سبحانه يقيد إمكان التعدد بتوفيره، في قوله تعالى "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، وحيث إنه تعالى نفى هذا العدل بقوله: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، فقد جعله شبه ممتنع شرعا، كما تشبعنا بحكمة الإسلام المتميزة بالترخيص بزواج الرجل بامرأة ثانية بصفة شرعية لضرورات قاهرة وضوابط صارمة وبإذن من القاضي، بدل اللجوء للتعدد الفعلي غير الشرعي في حالة منع التعدد بصفة قطعية، ومن هذا المنطلق فإن التعدد لا يجوز إلا وفق الحالات والشروط الشرعية التالية : لا يأذن القاضي بالتعدد إلا إذا تأكد من إمكانية الزوج في توفير العدل على قدم المساواة مع الزوجة الأولى وأبنائها في جميع جوانب الحياة، وإذا ثبت لديه المبرر الموضوعي الاستثنائي للتعدد.. للمرأة أن تشترط في العقد على زوجها عدم التزوج عليها باعتبار ذلك حقا لها، عملا بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "مقاطع الحقوق عند الشروط"، وإذا لم يكن هنالك شرط، وجب استدعاء المرأة الأولى لأخذ موافقتها، وإخبار ورضى الزوجة الثانية بأن الزوج متزوج بغيرها، وهذا مع إعطاء الحق للمرأة المتزوج عليها في طلب التطليق للضرر. انتهى))ـ، كما يُلاحظ بنى هذا النص منع التعدد والإذن به في حدود ضيقة على المفهوم من نصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها، ويلجؤنا اضطرارا إلى مناقشة الموضوع أولا من منظور ديني ثم ندلف بعده إلى عرض مقاربات أخرى لعلها تنير درب الباحث عن التوفيق بين الرؤى :
والبداية من قوله سبحانه : {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ليس دون قيود كما يتبادر للأذهان ولكن بتوفر القدرة المادية والمعنوية على تكاليفه وباحترام الحد الأقصى طبعا، ولا داعي للتساؤل عن الحكمة أو الغاية لأن الله سبحانه لم يعلق مناط الحكم على علة بعينها فقوله تعالى "ما طاب" يوحي بأن الشهوة لوحدها كافية للتعدد، وقد يكون الباعث عليه هو طلب الأبناء، جاء في الفصل الأول من قانون الأحوال الشخصية الملغى أن ((الزواج ميثاق ترابط وتماسك شرعي... غايته الإحصان والعفاف مع تكثير سواد الأمة))، وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا فقال ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم))، ويشهد له أيضا ما أُثر عن عمر الفاروق حيث قال : ((إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده))، ولك أن تلاحظ أن التعدد هو الأصل والاقتصار على الواحدة إنما هو استثناء، قال تعالى ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)).
فيما يخص العدل : قال تعالى : {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} وقال عز من قائل : {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة}، الذي ينبغي أن يُعلم هو أن نصوص الشريعة لا يضرب بعضها بعضا وإن بدا من ظاهرها التعارض، والذي يقول بهذا ينفي عن الله صفة الحكمة تعالى ربنا عن كل عيب ونقص، فالعدل المطلوب في الآية الأولى هو العدل في النفقة والمعاملة والمعاشرة والمباشرة، وبدونه يتعين عدم التعدد مع إمكانه وجوازه لأن لا سبيل إلى الاطلاع على عدم تحقق العدل المطلوب إلا بعد الزواج، فالخطاب بالتزام العدل توجيه للراغب في التعدد، وكأن الشارع يقول له إذا عددت فاتق الله في زوجتيك أو زوجاتك واعدل بينهن، وإذا كنت تدرك يقينا أنك لن تعدل فالأولى اقتصارك على واحدة، فقوله تعالى : {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} ليس شرطا لقوله سبحانه : {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} لأن حكم إباحة التعدد في الآية على إطلاقه ولم يرد تقييده بعلة معينة، ولأن الجملتين منفصلتين عن بعضهما ولم يتصلا اتصال الشرط[1]، إذن فالمسؤول الأول والأخير عن هذا الأمر هو الزوج وليس للقاضي أن يمنعه من التعدد بدعوى خشية عدم العدل، أما العدل في الآية الثانية هو الحب وميل القلب، وقد فسرته الآية الكريمة في قوله سبحانه ((فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة))، لكن يجب أن يظل داخل الصدر، وألا يترجم إلى تصرفات أو أفعال من شأنها أن تجرح أحاسيس باقي الزوجات أو تضر بمصالحهن أو تذكي الضغائن بينهن، وهذا النوع من العدل لم يسلم منه حتى أشرف الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أَخبرت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كان يقول : ((اللهم هذا قَسْمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك))، وقد انتصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء وراعى موقفهن وشدد الوعيد على من خالف هديه فقال : ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شِقّيْه ساقط)).
واعتبر الفقيه المغربي علال الفاسي رحمه الله العدل عاما دون تمييز بين الاثنين، بل أكثر من ذلك نادى بمنع التعدد مطلقا في كتابه "النقد الذاتي" مبررا موقفه بأن ((التجربة الملحوظة على مدى التاريخ الإسلامي تدل على أنه باستثناء العصور الأولى، فإن أغلبية المسلمين استعملوا التعدد في غير موضعه الشرعي))، ولا غرابة في رأيه هذا لأنه كان إصلاحيا واعتمد في تقريره على ما انقدح في ذهنه من مقاصد الشريعة، لكن جزمه بقوله "أغلبية المسلمين" يحتاج إلى بحث واستقراء، ثم إن الشرع هو الذي يحكم حياة الناس وليس العكس.
وقد ساهم اشتراط المبرر الموضوعي الاستثنائي إلى حد ما في تعميق جراح هؤلاء المكلومات اللواتي فاتهن قطار الزواج وجعل من التعدد أمرا أشبه بالمستحيل، مما يضعنا أمام معضلة أحادية الحليلة وتعدد الخليلات، وكلها روافد تعمق الشرخ في جسم المجتمع، وتوسع الهوة بين أزمة الأخلاق وعدم الثقة في الجهاز التشريعي كمؤسسة موكول إليها السهر على رعاية المصالح ودرء المفاسد، ولماذا يا ترى لم يُضيق على المرأة المراد التعداد بها أي المخطوبة ؟ وقد تكون هي من خططت لاستدراج الزوج واختطافه من زوجته الأولى وأبنائه، لماذا لا يُحظر عليها الارتباط برجل متزوج؟ وبهذا كان المشرع سيوفر الكثير من الجهد على القضاة ويغلق باب التحايل على النصوص، فلو كان حصل ذلك فعلا ليئست النساء العوانس من أن تأتين ضرائر على غيرهن، ولقطَعن الطمع في الاقتران بالرجال المتزوجين، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، لأننا ببساطة في عصر التمكين للمرأة الذي تجلى في جل القوانين بعد مراجعتها وليس فقط مدونة الأسرة، وحاصل القول أن التعدد سنة كونية لن تنقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكثيرة هي الزيجات التي تتملص من استصدار إذن مسبق بالتعدد وتضع المحكمة فيما بعد أمام طلبات ثبوت الزوجية، وكثيرة هي طلبات الزواج التي يدلي فيها الأزواج بأوراق لا تثيت حقيقةَ أوضاعم العائلية من باب الاحتيال على القانون، ((مثلا نسخة كاملة غير مضمن فيها ملخص الزواج السابق، فيبني عليها شهادة الخطوبة))، فهذا واقع مشاهد للأسف ولا يُعالج البتة بالتضييق على إرادة الأفراد، وتأمل إن شئت سُنَّة جمهورية تونس التي كانت سباقة إلى منع التعدد بشكل قانوني بموجب مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1956 مع ترتيب جزاءات رادعة لكل من ثبت في حقه أنه خالف، لكن هل كانت النتيجة مشرفة بعد عقود من التجربة ؟ وهل استطاعت الدولة وضع حد للتعداد في المعاشرة خارج إطار الزواج !!؟ والسكوت هو أفضل جواب.
والمنصف يجب أن يعترف بالفضل لشريعة الإسلام السمحة التي وضعت قطيعة مع الأزمنة الغابرة التي كانت تمتهن المرأة وتحط من قدرها، فالإسلام لم يبتكر نظام التعدد، فقد كان تعدد الزوجات على إطلاقه معروفا ومنتشرا في سائر أنحاء العالم قبل البعثة، ولم يكن لا عدل ولا تسوية في القَسم، أفإذا جاء الإسلام وأمر بالعدل والمساواة بين الزوجات وتقييد الحد الأقصى بأربع، يأتي نفر من قاصري العقل ومحدودي النظر ليعترضوا على هذه الرحمة المهداة ((ما لكم كيف تحكمون))، حقا إنها لا تعمى الأبصار.. ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!!
وبوادر هذه الحملة الشرسة على التعدد ابتدأت مبكرا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأوه يتزوج النساء فقالوا : ((انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام ولا والله ماله همة إلا النساء))، ولم يعد أمر الطعن في الدين مقتصرا على أولئك وحدهم بل حمل لواءهم ثلة من أذنابهم في زماننا هذا تحت مسمى التغيير والحداثة ومسايرة التطور... وساعدهم على ذلك بعض أنصاف العلماء بفتاويهم المضللة التي تهدف إلى رفع الحرج عن الأمة إما لخوف أو طمع أو شبهة مستحسنين بعقولهم وأهوائهم، ولو كان أمر التشريع من اختصاص الخلق ومن مدركات عقولهم لما أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، فالدين محكم البناء بدقة متناهية فلا يجوز الزيادة فيه ولا النقصان، إنما دور الخلق السمع والطاعة قال تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، وقال سبحانه : {وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا} صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام أي الأوامر والنواهي.
فليتذكر هؤلاء أن التشريع رباني المصدر يعني أنه وحده سبحانه المدرك لطبيعة خلقه لأنه هو سبحانه الذي صورهم والعالِـم مسبقا بما يصلحهم في معاشهم ومعادهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، وكأيِّ منتوج أو آلة يضع لها الصانع بالضرورة دليل استعمال فلِلَّه المثل الأعلى سبحانه، لم يترك خلقه هَـمَلا يتنقّلون بين التشريعات الوضعية الصالحة فالأصلح سبيلهم لمعرفة ذلك التجربة والخبرة، لا مطلقاً بل ترك لهم دليل استعمال "القرآن والسنة" وضمِن لهم الرزق مدة عيشهم وجعل لهم طاقة تقوى على إتيان ما شرع لهم بدقه، فلم يكلفهم إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وتنقص نِسَب امتثالهم للشرع أو تزداد بمقدار حظ الشيطان وتمكنه من قلوبهم، فمهما تثاقلت همم الناس عن تطبيق شرع الله فليس لأحد أن يغيره، بأن يبيح ممنوعا لم يأت به الشرع أو يقيد مباحا أباحه الله عز وجل إلا في حدود ما قيده به سبحانه، إنما تُعدَّل أهواء الناس وفقا لما جاء به الشرع، ولكن.. قد تعم البلوى حتى يصير الفساد سمة غالبة في المجتمع الذي يكون بحاجة آنذاك لمن يقوِّم اعوجاجه، والتقويم لابد له من رجال (لا أعنى الذكور مطلقا فرُبَّ امرأة تتصف بصفات الرجولة المفقودة في معظم الذكور)، وهؤلاء الرجال هم الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بالغرباء، قيل وما الغرباء يا رسول الله قال الذين يَصْلُحون إذا فسَد الناس وفي رواية الذين يُصْلِحون ما أفسد الناس، هؤلاء هم النخبة التي ينتظر منها أن تنتشل المجتمع من براثن الجهل والتخلف وهم الدفة المعول عليها -بتأييد الله لهم- في توجيه سفينة المجتمع إلى بر الأمان بدل تركها تائهة تتلاطم بين أمواج الفتن إلى أن تتهشم على الصخر.
ولنعد لموضوع التعدد فأيهما أكرم للمرأة ؟ أن تكون لها شريكة في زوجها في النور وأمام الملأ وبالضوابط والقيود التي وضعها الشرع أو أن يتخذ له من الخليلات بلا حصر معين؟ ويعيش كلاهما في قلق مستمر إلى أن ينتهي الأمر بأحدهما إلى السجن والآخر إلى القبر، فلا داعي لأن نكثر الطنطنة حول هذا الموضوع فقد سبقنا الغرب بعشرات السنوات الضوئية وانتبهوا لهذه القاعدة الربانية كحل للمشكلات المجتمعية فأعدوا فيها الدراسات وخير الحق ما شهدت به الأغيار، فقد شجعت عليه ألمانيا بل أباحته بعد الحرب العالمية الثانية لما قضى عدد كبير من جنودها في الحرب، أنظر كيف يتفطنون لأمر بعيد عن دينهم ما دامت تقتضيه المصلحة.
قد تدفع بعض الحركات النسائية بأن نظام التعدد مُناف للمساواة بين الجنسين، فنقول وأي عقل سليم يقبل أن تتزوج المرأة بأكثر من رجل لأن قيادة الأسرة على مدى التاريخ كانت للرجل الذي ينفق ويحقق الحماية، فالمقصود بالمساواة عندهن إذن هو اقتصار كل رجل على امرأة واحدة، والجواب هو : ما مصير النساء الأخريات اللواتي من حقهن تكوين أسرة ينعمن فيها بالاطمئنان النفسي والعاطفي ويطفئن تحت ظلها نار الشهوة ويشبعن فيها غريزة الأمومة ؟ مع العلم أن احتمال التعدد كان سيختفي تلقائيا في حالة تساوي عدد النساء إلى الرجال وسيكتفي كل زوجين ببعضهما، لذلك فالإسلام يرشد الناس إلى القواعد العامة التي تحقق المصلحة العامة، ولا يعطل احتياجات أمة بناء على أحوال متفرقة استثنائية شاذة، فلم يبق إلا إباحة التعدد أو السماح بالزنا، والعجيب في الأمر أن من ضبط متلبسا بالخيانة الزوجية فإن الحق العام يسقط عنه تبعا لسقوط الحق المدني، وكأني بمن شرعوا هذه الحيثية علموا يقينا أن الزوجين يستحيل أن يكتفيا ببعضهما، فلماذا الالتفاف يا ترى ؟
وقد تدفع أيضا بعض الحركات النسائية بالقول : بدلا من التشجيع على التعدد لماذا لا يزوج عُنَّس الرجال وما أكثرهم !؟ والجواب عن هذا يُلجؤنا بالضرورة إلى إلقاء نظرة عامة عن كيفية عمل النظام الاقتصادي الحالي، ولنكن صرحاء ولو مع أنفسنا لنقول إن المسؤول الأول والأخير عن قِصَر يد هؤلاء الشباب الذي لم يستطع للزواج طوْلاً هو الحكومات الفاشلة بنهجها سياسة معينة تعتمد تركيز أجزاء كبيرة من الثروات بيد قلة قليلة من أفراد المجتمع، بينما يبقى الجزء اليسير الفاضل من الثروة متداولا بين الفئات الكثيرة الباقية، بتعبير آخر اعتماد سياسة تهميش وسحق الطبقة الفقيرة وإشغال أفرادها بتوفير الخبز اليومي بالدرجة الأولى، فلا وقت لهم للالتفات للمشاركة في بناء المجتمع أو المطالبة بالحقوق المدنية والسياسية لا شيء من هذا يذكر، ونتيجة للتجهيل الممنهج أضحوا يرون حقوقهم أحلاما ولا تنتبه الحكومة إليهم ولا تعير لأصواتهم أي أهمية إلا عند الاقتراع، حيث يمنونهم بالوعود الكاذبة ويعدونهم بتحقيقها لكن صراحة هم مجندون لتنمية ثروات الطبقة الغنية -أدركوا ذلك أم جهلوه- بتقديس ملكيتهم الفردية وسن القوانين لحمايتها وإنمائها وعدم التدخل في الحياة الاقتصادية التي تخصهم حتى ولو تعارضت مع النظام العام، ناهيك عن المزايا الخيالية كالإعفاء من الضرائب والسمو فوق القوانين والحصانة والإفلات من المساءلة والمحاسبة...إلخ.
إذن تأخر سن الزواج لدى الشباب هو في الواقع نتيجة عدم القدرة على تكاليفه من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تيسير وسهولة إشباع الرغبة الجنسية خارج إطار الزواج ما دام النظام الاجتماعي قد توسع في مفهوم الحرية، وأحاط الدين والأخلاق بسياج من الفوبيا حتى كدت لا تناقش باسم الدين إلا وتُرمى بالتطرف والرجعية والظلامية... والمتأمل في حال الأمة يستغرب كيف تصر الحكومات على التضييق على الضعفاء، مثلا بعدم تفويت الأراضي البوار لهم لاستصلاحها وامتلاكها وإعفائهم من الضرائب لإضفاء نوع من التوازن الاجتماعي بين فئات المجتمع، لا نقول هذا انتصارا للشيوعية التي أكل الدهر عليها وشرب وصارت إلى مزبلة التاريخ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانقسامه إلى دويلات تخلت كليا عن أفكار المذهب ليقينها باستحالة تطبيقها على أرض الواقع، ولكن نقول ذلك لأن الأغنياء شاقوا الله ورسوله وانحصر مفهوم السعادة في أذهانهم في المال واللذة وتغافلوا عن أن الله سبحانه استخلفهم في مالِه ليبتليهم في طرق اكتسابهم له وينظر ما هم عاملين به، ولو شاء الله عز وجل لجعل الناس أغنياء جميعا لكن من تمام حكمته البالغة جعلهم متفاوتين قال سبحانه : {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سُخْرِيّا ورحمة ربك خير مما يجمعون} وقُرئت أيضا "سِخرِيّاً "ولله در القائل :
الناس للناس من عُرْبٍ ومن عَجَمٍ بعضُهمْ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ
فجعل الله سبحانه كل فرد مسخر لخدمة الآخر وأمر بالتعاطف والتراحم والإنفاق في الخير لتزكية المال، وخشية تولد الحقد لدى الفقراء اتجاه الأغنياء، لكن هؤلاء انسلخوا عن مسؤوليتهم اتجاه إخوانهم الفقراء، وما دام الأمر كما وصفنا فليُترك هؤلاء الضعفاء يضربون في الأرض الواسعة العامرة يبتغون من فضل الله، وما ضاقت الأرض يوما بسكانها وكانت منذ خلقها الله عز وجل مجالا للكسب والاقتيات لكل الكائنات الحية ليس فقط الإنسان، وما زاحم أحدٌ أحداً في رزقه منذ بدء الحياة على ظهرها، أيأتي اليوم قصيرو النظر ويجترُّون ما قرره مالتوس (صاحب قانون الانتقاء الطبيعي الذي اعتمده داروين في تأصيل نظرية التطور) ويزعمون أن ثروات الأرض غير كافيه لسكانها، وخير جواب على هذا الهراء هو قول ربنا جل وعلا : {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} والعدد لا عبرة له في قدرة الله المطلقة سبحانه الذي لا يعجزه شيء فلو شاء لفعل كل ذلك في لمح البصر أو أقل، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
لذا فيلزم أجهزة الدولة أن تحسن إلى رعاياها لإبقاء أواصر المواطنة في قلوبهم، فالشعب هو الرأسمال الحقيقي اللامادي لأي بلد.
أما من الناحية السيكولوجية وعودة لموضوع التعدد، نجد أن الرجل لا يكتفي بالضرورة بامرأة واحدة في الغالب، قال سبحانه : ((زُيّن للناس حب الشهوات من النساء))، فمن سمات الرجل التعديد عاطفيا على عكس المرأة كما أقره علماء النفس، فهي تكتفي بالإخلاص لرجل واحد راضية بذلك، إذا كان نموذجا مثاليا يلعب كل أدوار البطولة في حياتها، وحتى لو لم يكن كذلك فإنها تصبر عليه، بخلاف الرجل فإنه لا يصبر على المرأة التي لا تلائمه، ولا تلجأ إلى التعديد عاطفيا إلا من تنكبت الفطرة التي فطر الله الجنسين عليها ألا له الخلق والأمر، فلا مجال لأن يُقارن الرجل بالمرأة في هذا الجانب.
أما من الناحية السيكولوجية وعودة لموضوع التعدد، نجد أن الرجل لا يكتفي بالضرورة بامرأة واحدة في الغالب، قال سبحانه : ((زُيّن للناس حب الشهوات من النساء))، فمن سمات الرجل التعديد عاطفيا على عكس المرأة كما أقره علماء النفس، فهي تكتفي بالإخلاص لرجل واحد راضية بذلك، إذا كان نموذجا مثاليا يلعب كل أدوار البطولة في حياتها، وحتى لو لم يكن كذلك فإنها تصبر عليه، بخلاف الرجل فإنه لا يصبر على المرأة التي لا تلائمه، ولا تلجأ إلى التعديد عاطفيا إلا من تنكبت الفطرة التي فطر الله الجنسين عليها ألا له الخلق والأمر، فلا مجال لأن يُقارن الرجل بالمرأة في هذا الجانب.
ثم إن العلماء عندما يفصلون في دواعي التعدد كتراجع أعداد الرجال بالمقارنة مع النساء في بعض المناطق التي تشهد الحروب، وكوجود فحولة قوية في بعض الرجال لا تجاريها امرأة واحدة عادة، لأن في ذلك تحميل لها فوق طاقتها وغير ذلك من الدواعي، إنما يصفون الحال فقط ولا يجعلون ذلك علة للحكم التي يفترض فيها أن تكون شرعية أي وضعها الشارع سواء بالنص أو الاستنباط، لا عقلية من استحسان البشر لأن عقول الناس متفاوتة وآراؤهم متضاربة، فعقل من نُحكٍّم ؟ وبأي رأي نأخذ ؟
وربما قد يكون سن استصدار إذن بالتعدد ناتجا عن استعمال بعض الأزواج لهذا الحق بشكل سلبي يضر بالزوجة الأولى كأن يميل بقلبه للثانية، وغالبا ما تكون أصغر سنا وأكثر جمالا أو يهمل أولاده منها، ولكن ليس ظلم الأزواج وعدم عدلهم حجة كافية لمنعهم من التعدد، يقول سيد سابق رحمه الله في "فقه السنة" حول هذا الموضوع : (إن العلاج ما أباحه الله، وإنما يكون ذلك بالتعليم والتربية وتفقيه الناس في أحكام الدين، ألا ترى أن الله أباح للإنسان أن يأكل ويشرب دون أن يتجاوز الحد، فإذا أسرف في الطعام والشراب وأصابته الأمراض وانتابته العلل، فليس ذلك راجع إلى الطعام والشراب بقدر ما هو إلى النهم والإسراف، ثم إن الذين حظروا التعدد إلا بإذن من القاضي مستدلين بالوقع من أحوال الذين تزوجوا بأكثر من واحدة جهلوا أو تجاهلوا المفاسد التي تنجم من الحظر، فإن الضرر الحاصل من إباحة التعدد أخف من ضرر حظره، والواجب أن يُتقى أشدهما بإباحة أخفهما -تبعا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين- وترك الأمر للقاضي مما لا يمكن ضبطه، فليست هناك مقاييس صحيحة يمكن أن يعرف بها أحوال الناس وظروفهم، وقد يكون ضره أقرب من نفعه. انتهى))
ولا يخفى أن الشرع راعى أيضا إمكانية عدم تقبل الزوجة الأولى للضرة عليها، أو حصل نفور من جهتها لزوجها أو تاقت نفسها لرجل آخر، فلم يلزمها الشرع أن تبقى أسيرة تحت عصمة زوجها، إنما أباح لها أن ترفع أمرها إلى القاضي لتطليقها، سواء أكانت اشترطت عليه في العقد عدم الزواج عليها أم لا، إلا أنه مع وجود شرط بعدم الزواج، يعتبر الزوج هو المتعسف في الفرقة حتى لو كان طلب التطليق مقدما من الزوجة، ولن يحكم لها بالمتعة وإنما بتعويض عن الضرر الذي لحقها، ولها أن تستأنف حياتها مع رجل غيره ونفس الشيء هو لِيغن الله كلا من سعته.
رموز انفعاليةEmoticon