للزوجة الامتناع من أن تسكن مع أقارب زوجها.. قرار قضائي

وسوم



بقلم : ذ.محمد العبدلاوي

         باحث في قضايا الأسرة

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

فعلاقة بموضوع إلزام الزوج بعزل مسكن مستقل لزوجته بعيدا عن أهله، استنادا إلى قول الشيخ خليل رحمه الله من المالكية ، وهو القرار الذي استقر عليه العمل القضائي بما في ذلك محكمة النقض وهي أعلى هيئة قضائية تعنى بالاجتهاد الجماعي، وأمام عدم تقبل البعض لهذا القرار الذي يرون فيه تحيزا كبيرا للمرأة وترجيحا لكفتها على حساب زوجها، الشيء الذي سيعمق الشرخ في جسم تلك الأسرة وسيعجل بزوالها، أقول مستعينا بالله عز وجل وموضحا لبعض الأمور التي ثار حولها الجدل :
أولا : قال البعض أن الأحكام تؤخذ من القرآن أو السنة حصرا، معلنا تحديا لمن يأتي بدليل من هذين الأصلين على قرار محكمة النقض، وقائل هذا أضل من حمار أهله، لأنه لا يميز شماله من يمينه في دين الله عز وجل، ونقول له بلطف :
-        أين تجد في القرآن أو السنة أن الزوجة ملزمة بأن تسكن مع أهل زوجها، وبأن تترك معهم خادمة لشهور وزوجها يصول ويجول بعيدا عنها بحجة أن عمله في مدينة أخرى، فقبل أن تتحدى غيرك أثبت أولا صحة وجهة نظرك، فأنت من يفترض بك إثبات الدليل على دعواك.
-        ثم اعلم أن الأحكام الشرعية ليس مصدرها فقط الكتاب والسنة، ولكن كلها ترجع لهذين الأصلين فهناك مصادر أخرى كالإجماع والقياس وقول الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف وشرع من قبلنا... لكن الحكم المستنبط من خلالها يجب أن لا يخرم قواعد الأصلين العظيمين القرآن والسنة، وإذا ما حاولنا تتبع قرار محكمة النقض بضرورة عزل مسكن وتأصيله فقهيا سنجد له مستندا في عدة أصول، من ذلك القياس، فعند الفقهاء قاعدة فقهية وهي في الأصل حديث نبوي صحيح وهو ((الضرر يُزال)) كيفما كان نوعه ما دام متحققا لا متوهما، وما دامت قد طالبت بالاستقلال فإنها متضررة من إيذائهم لها الشيء الذي تغيب معه المساكنة الشرعية، وربما حشروا أنفسهم في حياتها واطَّلعوا على خواصها وأفشوا للناس الغرباء صفاتها الخِلقية والخُلقية، والمنصف يرى أن الزوجة تلج العلاقة الزوجية مسالمة في البداية طمعا في إنشاء أسرة مستقرة، ولا تثور إلا بعد أن يثور أهله عليها ويعاملونها معاملة الكلاب وعفوا على التمثيل لأننا صراحة بحاجة لأن نسمي الأمور بمسمياتها، لا أن نطالب الزوجة أن تصبر وتتنازل حتى تفوت زهرة شبابها، فيرمى بها عظمة بعد أن نهشوا لحمها طوال سنين، أما مستند القرار إلى قول الصحابي فلا تجهلون القولة الشهيرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كتب إلى عماله (جمع عامل وهو الوالي على منطقة بتعيين من السلطان) قائلا : ((مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا))، وقد علق الإمام الغزالي على هذا الأثر في كتابه إحياء علوم الدين بقوله : ((وإنما قال ذلك لأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق، وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم))، ولا يخفى كذلك على أهل الصناعة الأصولية أن قول الصحابي حجة ما لم يوجد مخالف، ولا مخالف انتقد على عمر موقفة، ثم مستند القرار إلى المصلحة المرسلة واضح لا ينازع فيه عاقل، وهذا القرار أقرب إلى المصالح المعتبرة منها إلى المرسلة، لأن المرسلة ما لم يعتبرها الشارع ولم يلغها بل أرسل الحكم فيها فيحقق المناط ثم ينزل الحكم، ومستند القرار إلى العرف واضح فالعرف من مصادر القانون أيضا وليس فقط الأحكام الشرعية، والعرف هو (ما استقرت عليه النفوس بشهادة العقول وتلقته الفطر السليمة بالقبول) ولا شك أن العقول والفطر السليمة تستهجن الخصومة وتستلذ استمتاع الزوجين ببعضهما بعيدا عن المنغصات، وما تعارف عليه الناس أن الرسول جعل لكل زوجة من زوجاته حجرة خاصة بها، رغم أنه كانت تهب عليه عواصف الفقر أحيانا فلا يوقد في بيته نار لطبخ الطعام لأكثر من شهرين، مع أنه رسول مؤيد بالله سبحانه وزوجاته غرس الله كرامتهن بيده فاختارهن لصحبته، ومع ذلك لم تجتمع زوجتان في حجرة واحدة رغم أنهن صالحات عفيفات قـوّامات صوامات وإن شئت اجمع كل شيء وقل هن من أهل الجنة، فكيف يا أخي ترى الفضل لنفسك وأبويك وأقاربك عموما على زوجتك المسكينة ملزما إياها بالصبر والتنازل، وكآخر مستند يمكن أن يؤصل لعزل مسكن للزوجة "شرع من قبلنا" فشرع من قبلنا من الأمم السابقة إذا ورد بطريق صحيح ولم يرد عليه ناسخ من شرعنا كان شرعا لنا يجب اتباعه، والمتتبع لقصة إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم يتعجب أشد العجب عندما يرى كيف عزل لزوجته الثانية هاجر أم إسماعيل ليس مسكنا مستقلا عن زوجته الأولى سارة أم إسحاق، بل عزل البلاد كلها قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم)) وقد فعل ذلك خوفا على هاجر من أن تبطش بها سارة وتقتلها إخمادا لجمرة الغيرة التي تحركها، وعموما ليس في شرعنا ما ينسخه فهو إذن شرع لنا... هذا ولم نتحدث في التأصيل عن مقاصد الشريعة التي هي أعم وأشمل.
ثانيا : فعلا الشيخ خليل رحمه الله ليس نبيا مرسلا، ولكنه وارث النبي قال صلى الله عليه وسلم ((وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)) فالعلماء ورثة الأنبياء ولحومهم مسمومة فمن أطلق لسانه في العلماء بالسب ابتلاه الله بموت القلب، فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، ثم إن الشيخ خليل رحمه الله لم يتفرد بهذا القول دون غيره، بل يكاد يحكى الإجماع على هذه المسألة، ذلك أن ضرورة عزل الزوج لزوجته مسكنا بعيد عن أهله هو رأي جمهور الفقهاء من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة، فلا أدري لم الاستغراب والاستنكار، أم أنك يا هذا فتحت عينيك على أبيك يشبع أمك سبا وشتما ثم يضاجعها آخر الليل كالبهيمة، فمثلك لا يتقبل السلوك الحضاري الذي أتى به الشرع والعرف السليم، فأنت أسوأ خلْف لأسوأ سلف، قال أجدادنا قديما ((منين ما داز المخْيَط يدوز الخيط))، أما الذين يتهكمون بكون الشيخ خليل ليس مرجعا فقهيا، فمثل هؤلاء لو سكتوا لكان أفضل لهم في معاشهم ومعادهم ولأراحوا العباد والبلاد من سفههم وجهلهم، فماذا يعرف هؤلاء عن الشيخ خليل، وإن لم يكن مرجعا في الفقه المالكي فمن يا ترى المرجع فهذه حملة قديمة الجذور على ثوابت الأمة ورموزها ولكن هيهات يا ناطح الجبل فالخوف على رأسك لا على الجبل، فقد مكث الشيخ خليل رحمه الله أزيد من عشرين سنة في تأليف كتابه المختصر الذي أخذ منه هذا الحكم، فلم يؤلفه من دماغه، إذ ليس هذا فكرا بل دينا قال بن سيرين (فانظروا عمن تأخذوا دينكم) وقد اعتمد في تحصيله على جملة من أمهات مصادر المالكية، كالمدونة لسحنون والنوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصغير، وعقد الجواهر الثمينة لابن شاس والتلقين للمازري... واللائحة تطول، وقد اعتدنا تنقص العلماء ممن لا خلاق له، ولا يعدو أن يكون غبارا يثيرونه ليخفوا أشعة الشمس لكن سرعان ما يستقر الغبار على رؤوسهم وتبقى الشمس ساطعة متلألئة.
ثالثا : يجب أن يُعلم أن محكمة النقض أعملت مبدأ الإحالة على الفقه المالكي الوارد في المادة 400 من مدونة الأسرة، وهي محاولة لأجل توسيع التطبيق العملي لتجاوز قصور النص المجرد نتاج التقنين، بهدف استيعاب النوازل والحوادث اللامتناهية، والتي يعسر على القاضي أن يجد لها حكما منطقيا في غياب الرجوع لقواعد التراث الفقهي، باقتصاره فقط على النصوص القانونية، فالذي يجب أن يساءل هو محكمة النقض التي اقتبست قولا فقهيا خاضعا لظروف وملابسات معينة أثرت في استنباطه حينئذ على واقع آخر مخالف تماما لما كان عليه الحال زمن الشيخ، فعلى أي هو اجتهاد بالإسقاط وليس اجتهاذا تنزيليا بتحقيق المناط لملاءمة الحكم على المحل، ومحكمة النقض هي من يفترض بها تبرير موقفها.
رابعا : عزل مسكن للزوجة من حقوقها الثوابت حتى ولو لم تشترطه في العقد، فيحق لها المطالبة به متى شاءت ومتى علمت أن المساكنة الشرعية معدومة في حياتها الزوجية، وعلى الأزواج أن يتقوا الله في زوجاتهم، وليعتبروا هذه المسألة من أسس القوامة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))، فليضع المقبل على الزواج في اعتباره أن الباءة هي القدرة المادية التي تشمل الإنفاق والإسكان والبدنية  المنافية للعجز، ومن لم يستطع فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، قال تعالى ((وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله))، لكن نجد صنفا من الأزواج يشكلون السواد الأعظم يحمِّلون الزوجة مسؤولية الشقاق الحاصل مع أهل الزوج، ورغم أنهم في قرارة أنفسهم يستشعرون أنهم ظلمة وعلى خطأ، ويؤملون الصلح لكنهم لا يسعون إليه، إما لكبر أو معاندة وكل طرف ينتظر المبادرة من الآخر، وإذا ما سعَوا إليه تمسكوا بمواقفهم ولم يقبلوا الاعتذار للزوجات ورد مظالمهن، في المقابل تتشبث الزوجات بحقوقهن ((إما ماديا أو معنويا))... والذي ينبغي أن يفهم أن الصلح إنهاء خصومة أما التنازل فهو تخلٍّ عن حق، وإنما وقع الخلط بينهما إما بسبب الرواسب النمطية التي توارثتها الأجيال بعضها عن بعض، أو بسبب بعض الممارسات الخاطئة لبعض من يباشر الصلح أو يتدخل فيه، حيث يوهم هؤلاء صاحب الحق (الزوجة) أنها هي من تعرقل العملية الصلحية إذا ما بقيت متشبثة بحقها، ومهما يكن.. فالصلح فعلا محمود ولكنه ليس واجبا، والطلاق فعلا مذموم لكنه ليس حراما وليس أبغض الحلال كما هو شائع، ولكن رد المظالم واجب وضمان الحقوق كذلك حق، والحق أحق أن يُـتَّبع.


رموز انفعاليةEmoticon