أسـس صــلاح الأســرة
بقلم : ذ.محمد العبدلاوي
باحث في قضايا الأسرة
لا يسعنا الحديث عن أي نهضة تنموية في أي مجتمع دون
اعتبار للعنصر اللامادي المتمثل في الإنسان، وإن محاولة إصلاح هذا الكائن بما يحقق
له السعادة والرفاهية يلجؤنا بالضرورة إلى استصحاب الوسط الصغير الذي ينحذر وينطلق
منه - أعني الأسرة-، وإن أي تصور لصلاح الإنسان - رجلا كان أو امرأة أو طفلا-
بمعزل عن فهم كيان الأسرة جملة فهو ضرب من العبث، ويظل تصورا جزئيا يتعامى عن كل
الزوايا المراد فحصها وترميمها، وبالتالي يقع فريسة الانتقائية لأنه يفتقر إلى
الشمول في المعالجة، ولعل أبرز ما ساعد على إقصاء النظر إلى الأسرة في شموليتها هو
المواقف السلبية لأغلب مؤسساسات النسيج الجمعوى - خصوصا النسائية منها-، حيث تنطلق
هذه الأخيرة من حاجة المرأة إلى المساندة والدعم والإيمان المسبق بمظلوميتها ثم الدفاع
عنها بكل السبل، ولا غرابة أن تسلك معظم الهيئات الحقوقية والجمعوية هذا النهج
لأنها ببساطة تسعى أن ينالها حظ من حسنات أجنبية أو أنها امتداد لأحزاب تتبنى
أفكارا معينة تسير وفقها ولا تملك الخروج عن المرجعيات المسطرة قيد أنملة، والقول
الفصل في هذه العجالة التي نقدم لها بهذا المدخل هو أن أي نهضة مجتمعية لا تصطحب في
مجرى التغيير بشكل تزامني مثلث الإصلاح - إنصاف المرأة، حماية حق الطفل، وصيانة
كرامة الرجل كما جاء في الخطاب الملكي السامي- فكبر عليها أربعا لأنها تظل هي
والعدم سواء.
بداية لا يختلف اثنان حول محورية
العناية بالأسرة لأجل الرقي بالمجتمع، لكن هناك نابتة من غير المنصفين رغم إيقانهم في أنفسهم بهذا المطلب إلا أنهم يتحينون
الفرص لهدم صرح الأسرة، فيتسللون بكل السبل للانقضاض على البقية الباقية من
الفضائل التي لا تزال عالقة، فتراهم يجتهذون في تفريعات المشكلات الاجتماعية
المستجدة أكرر " المستجدة "، وخذ مثالا على هذا (ظاهرة الأمهات العازبات
وما يتولد عنها كظاهرة الأطفال المتخلى عنهم...) فتراهم يدرسون تمظهراتها ويخرجون
بتوصيات في كل مناسبة للحد من آثارها حسب زعمهم، بينما يتغافلون عن مسبباتها
ويغضون الطرف عن كل محاولة فعلية لاجتثاثها من الجذور، والعمل الجاد للحد من الظاهرة أيّاً كانت الظاهرة لا
يكون بالإكثار من تأسيس الجمعيات والمنظمات الحقوقية التي آن لها أن ترتقي
بأهدافها وتنتقل بأنشطتها من الاحتجاج إلى التوعية والتحسيس، ولا يكون باجترار
الكلام المبتذل في كل مرة حول التعريف بها وعقد الملتقيات الدورية لها وعرض
الإحصاءات التي تحول الواقع المؤلم إلى أرقام جافة، ولا ينحصر كذلك في توفير
الوسائل التي تضمن التكفل بمتضرريها، لأن كل هذا جزء من العمل وليس كل العمل، ولكن
يكون بجرد مسبباتها كما قلنا - وهي معلومة لكل من له قلب- ومحاولة نزعها من
أساسها، ولا يتأتى ذلك إلا بسن تشريعات تتوافق والمحافظة على العفاف
والفضيلة والتي طالتها أيادي الغدر الخفية جراء العولمة التي أتت سيولها على
الأخضر واليابس، ثم في خطوة ثانية ترجمتها على أرض الواقع وترك تقليد الغرب تقليدا
سخيفا في أسوأ ما لديهم، أعني أنظمتهم التي لا تناسب البيئة الإسلامية، وليس معنى
هذا أن نضرب كفا بكف ونتحسر على الواقع المعيش، إنما المطلوب أن يبدأ كل إنسان
بنفسه وأهله ثم أقرب الناس إليه لأن ضحايا اليوم هم في الحقيقة نتاج قصور في
التربية والتوجيه بالأمس من طرف الأسرة بالدرجة الأولى التي كانت ولا تزال خير زاد
وأقوى عتاد لتحصين النشء لولا تغييب وظائفها في الآونة الأخيرة.
ومهما اجتهذ
هؤلاء في وأد أعمدة المنظومة الأسرية فلن يستطيعوا لذلك سبيلا، لأن الشرع لم يترك
مجالا للاجتهاذ في أصولها، إنها شريعة الإسلام التي ما تركت خيراً من أمور الدنيا
والآخرة إلا دلت عليه السائرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( تركتم على
المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ))، وقال
صلى الله عليه وسلم (( تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا،
كتاب الله وسنتي ))، والشريعة الغراء لم تترك جانبا من جوانب حياة الفرد منذ
استهلاله بالصراخ إلى أن يُوارى الثرى صَغُر أو كبُرَ إلا وأرشدت إليه، قالت يهود
لسلمان الفارسي - تهكماً - : (لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة، فقال : أجل
نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وأن نستنجي باليمين وأن نستنجي بأقل من ثلاثة
أحجار أو أن نستنجي برجيع - يعني روث الدابة - أو عظم) رواه مسلم، وقد وسِعَت
الشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير من وطئ الغبراء وأظلته الزرقاء، ووسعت
الصحابة رضوان الله عليهم وهم خير الخلق بعد الأنبياء غرس الله كرامتهم بيده
فاصطفاهم لصحبة نبيه، ووسعت من بعدهم من القرون الثلاثة المفضلة الأولى المشهود
لهم بالخيرية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير الناس قرني ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم)، وتتابع الناس على ذلك ليس لهم مورد يردونه إلا الاحتكام
للشريعة، وفي اختلاف الفقهاء في إطار أصول الشريعة توسعة ورحمة ورفع للحرج عن
الكثير من الناس، ولابد للنوازل المستجدة من تفسير بالاجتهاذ الفقهي الذي يراعي
أصول الشريعة ومن طرف متخصصين لا أقزام محسوبين على العلم والعلم منهم بريء، قال الإمام
مالك رحمه الله : (ما لم يكن يومئذ دينا فليس اليوم دينا) يقصد عهد الرسول وصحابته
صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، فإذا كانت الشريعة وسعت كل هؤلاء فيسعنا إذن
ما وسعهم، وإن كان لا يسعنا إلا ما ابتكرنا أو استوردنا لتلميع صورتنا فلا وسَّع
الله علينا بما لم يسع هؤلاء الأطهار.
ولو كان أمر
التشريع من اختصاص الخلق ومن مدركات عقولهم لما أنزل الله الكتب وأرسل الرسل،
فالدين محكم البناء بدقة متناهية فلا يجوز الزيادة فيه ولا النقصان، ودور الخلق
السمع والطاعة لا الاستدراك قال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الإسلام دينا}، وقال سبحانه {وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا} صدقا في
الأخبار وعدلا في الأحكام أي الأوامر والنواهي.
إذن سبب ما نحن فيه من مِحَن هو
استظهارنا تعاليم الإسلام المطهرة، واستقبالنا لتعاليم دخيلة عن ثقافتنا وديننا حتى
صرنا
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
.... والماء فوق ظهورها محمول
فصدق علينا قول ربنا جل في علاه :
{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}،
ولنبدأ بحسرة
ومرارة مناقشة ثالوث الإصلاح بالمرأة المسكينة التي انجرفت مع التيار، وانخدعت
بمظاهر التقدم المزركش، وارتقت المنابر الإعلامية لتُسمع صوتها وتدافع عن حقها
الموهوم، الكل يتحدث عنها، والكل يتبنى قضيتها، والكل جرد نفسه ووقته وأوقف ماله
للدفاع عنها، فمَن المعتدي عليها إذن إذا كان الكل في صفها !؟ نعم
استطاعت أن تحقق مكاسب ما كان لها أن تجد رائحتها لولا أننا في عصر التمكين
للمرأة، ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ بدل أن تثمر هذه المكاسب قِيَما أخلاقية تميز
الإنسان عن غيره من الحيوان، صارت سلوكياتنا أحط مما هي عليه لدى البهائم، وارتفعت
نسب العنف والطلاق والعزوف عن الزواج ونبتت ظواهر اجتماعية جديدة إلى حدود الأمس
القريب لم نكن نتخيل أن تبلغ حد الظاهرة، وفي هذا دليل كافٍ على أن هذه المكاسب لم تكن مستحقة،
وإنما جاءت نتيجة قرارات فوقية، والمسألة في شموليتها تكمن في "افتعال
القضية" من طرف جهات غير منصفة من ''المستغربين'' الذين اعتادوا الاصطياد في
الماء العكر... إذ يحرص هؤلاء أن يوحوا للمرأة في ثوب الناصح الأمين أن لها قضية
بحاجة إلى نقاش وتستدعي الانتصار لها، ولذلك يكثرون اللعب على هذا الوتر الحساس في
شتى وسائل الإعلام، بأن المرأة في مجتمعاتنا تعاني ما تعاني وأنها مهضومة الحقوق
من طرف الرجل الذي استأثر دونها بكلِّ شيء، وهكذا يدغدغون في المرأة جانبها
الشيطاني إلى أن تتقبل ويتقبل الجميع وجود قضيةٍ فعلا هي عند التأمل زوبعة في
فنجان.
حقيقة لا نُنْكِر
وقوع شيء من الظلم على المرأة من قِبل بعض الأزواج أو الآباء الجهال، لكن هذه
الأمور نتاجٌ حقيقي ٌّ لتخلف الأمة عن عقيدتها ودينها، وليست القضية قضية أفراد بل
قضية مجتمع ككل، والعلاج علاج أمة بأكملها من "الساس للراس" وإعادة البناء
من القواعد، أمَّا أن يُشعر الناس بأن للمرأة وضعاً مميزاً دون سائر المجتمع، فتلك
خطة مدروسة يرُاد من ورائها تضخيم القضية لأجل فرض الحلول المسمومة بعد ابتلاع
الطعم طبعاً، ولابد من توجيه الخطاب لكل إنسان
يشمئز من سماع أو مناقشة المشروع الإسلامي كحل لمعالجة الازمات الحادثة، فيقول
((نزهوا الدين النقي ولا تقحموه في السياسة المبنية على الكذب)) بل ويدعو إلى
الرذيلة وإلى إخراج المرأة من خِدرها والعبث بأنوثـتها التي هي أغلى ما يميزها،
ويعتبر ذلك من أسس الحضارة الحديثة، فنقول لهذا ومن على شاكلته : { كَبُرَت كلمةً
تَخرُج من أفواههم إن يقولون إلا كَذِباً } فيا هذا.. من أعطاك حق الولاية على
ابنتك...؟ وتعارض أن ينازعك أو يشاركك أحد هته الولاية، أليس هو الدين ؟ بلى،
فسبحان الله أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، لماذا إذن تتخير حاكمية الدين في
بعض الأمور دون سواها، حقا إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
أما إذا أتينا
على ذكر العنصر الثاني من ثالوث الإصلاح أعني الرجل فالحديث يجرنا إلى إنسان يجب
أن تحفظ كرامته ويعرف قدره ويظهر كأسد في عرينه، لا أن يُنازع في أبسط حقوقه ويُحظر
على ولايته اتجاه أهله، قال صلى الله عليه وسلم : ((ليس منا من خبب امرأة على
زوجها))، فلا يوجد امرأة مستقوية إلا
بوجود رجل مستضعف، ولا أبالغ إن قلت أن أصل مشاكل الأسر هو الزوج لأنه فشل في أن
يسوس المرأة، لأن الله عز وجل خلقه وجعل له عليها درجة وجعله قيما عليها بالصفات
التكوينية التي أكرمه بها، فإذا ضاعت بيوتاتنا اليوم، فليس مرد ذلك إلى الشرع ولكن
سببه راجع بالأساس إلى عيب في الزوج لأن الله عز وجل ما أعطاه تلك الصلاحيات إلا
وسبق في علمه أن له من الخصائص الخلقية التي يقوى بها عليها، وإلا سيكون تكليفا
بما لا يطاق وضربا من العبث تعالى
الله عن كل نقص، ولكن كيف يسوسها يا ترى؟ يستطيع ذلك بالحلم والتجاوز عن الزلات والتغاضي
عن العثرات لا بالعزة والأنفة والتدقيق في الجزئيات، ولله در امرأة وصفت زوجها
فقالت ((زوجي إذا خرج أسِد، وإذا دخل فهِـد))، وأهم ما يميز الفهد التغافل فكلما أسر
الزوج المرأة بالجميل وزاد حلمه عليها صارت طوع بنانه، فتهدأ النفوس وتستقر
البيوت، وليس معنى القوامة الغطرسة والاستبداد إنما معناها الرعاية والحياطة انطلاقا
من الود والمسؤولية، ولا مساواة بين الرجل والمرأة إنْ على المستوى التكويني
الخلقي أو فيما يخص الأدوار المسندة لهم في الحياة، هم سواسية فقط في أنهم مخاطبون
بنصوص الشريعة ومأمورون بتحقيق العبادة للذي خلقهم وهو الأدرى بما يسعدهم في
الدنيا وينجيهم في الآخرة، ولا يقول بعكس هذا إلا أعمى البصر والبصيرة، ولابد إذا كنا ندندن حول أسس صلاح الأسرة أن
نحافظ بالدرجة الأولى على المسافة الفاصلة بين المرأة والرجل، لأن اختصار المسافات
من شأنه أن يخلخل توازن المجتمع ويحدث تضاربا في الأدوار، وهو المشاهد للأسف، والرجل لا ينتقي من
النساء من تضاهيه أو تستعلي عليه، فقوة المرأة في إظهار ضعفها وتوددها لا بنكران
الجميل وكفران العشير، غير أن أغلب النساء تجهلن هذا، فإذا ما أتت زوجها باللين
وطيب النفس وحسن الخلق نالت منه مراداها كيفما كانت ظروفه، أما إذا استقوت وترجلت
فسيكسر رقبتها وكسرها طلاقها كما جاء في الحديث الشريف، فهذه رسالة إلى كل باحثة
عن السعادة الزوجية أن تجتهذ في إيحاد مفاتيح زوجها منذ أول ليلة تجمعها به، لأن
بعض النساء للأسف جمعن من الغباء ما الله به عليم، من هؤلاء من تأتي إلى زوجها وهو
في أسوأ أحواله لتناقشه في أمر يحتمل التأجيل، ومتى كنا نسمع بظاهرة العنف ضد
الرجال، الآن ومع عصر التمكين للمرأة أَمْكَن أن تَسمَع ذلك، فكم من مسجون بسبب
زوجته !؟ وكم من مختل عقلي بسبب زوجته
كذلك ؟ وكم ؟ وكم ؟ ... والمشكلة أن لا أحد ينتصر لهؤلاء الرجال المعتدى عليهم من
قبل زوجاتهم، ولا توجد اعتمادات مالية ولا منظمات تدعم هؤلاء الرجال وتتبنى قضيتهم
وتدافع عن رجولتهم المهترئة، لأن الغرض بالإفساد المرأة وليس الرجل، فهي إذن حملة
قديمة الجذور الغرض منها هدم الأسرة عامة والمسلمة خاصة، وإباحة الفوضى الجنسية
بجعل النساء مِلكا لعامة الرجال لا لآحادهم.
نأتي إلى
العنصر الثالث والأخير والأهم في ثالوث الإصلاح، نعم إنه الطفل، فنقول هل بإمكان
الطائر أن يطير بجناح واحد ؟ الجواب : كلا، كذلك الطفل لابد له من الأم والأب وهما
جناحاه اللذان يحققان له الدفء الأسري فينشأ نشأة سليمة، ومن شأن انحلال ميثاق
الزوجية أن يكون سببا لأن تتفرع عنه العديد من الظواهر الاجتماعية الأخرى التي لا
تقل خطورة، فيتشرد الأطفال نتيجة التفكك الأسري، وينحرفون مع ما يصاحب ذلك من
إدمان للمخدرات نتيجة الحرمان العاطفي، وينقطعون عن الدراسة جراء الفقر، وتلجأ
المطلقات إلى التسول أو بيع الهوى نتيجة الفاقة أيضا وقلة الحاجة، أو ربما لا تصبر
على مفارقة الحليل فتتخذ لها خليلا أو أكثر يشبعون رغباتها الجنسية بعوض من المال
أو بدونه، وقد لا تبالي ولا تحتاط من الحمل والإنجاب خارج نطاق الزوجية لأن دُور
الأطفال المتخلى عنهم تفي بالغرض.
فلذلك لما
كانت مرحلة الطفولة هي قطب الرحى لصقل
شخصية الإنسان كان لابد له من تخطيها بالتوازن المطلوب، لأنه سريع التأثر بمحيطه
ولا تنفع أي محاولة في تلقينه القيم النبيلة أكثر من اعتماد القدوة الصالحة التي
تمكنه من استيعاب شتى المعارف على جميع الأصعدة، وتؤهله فيما بعد من الاندماج
اجتماعيا ومجابهة مواقف الحياة التي سوف تعرض له في المجتمع شابا وكهلا وشيخا،
فالعبء إذن ملقىً على الأسرة بالدرجة الأولى التي اقتصر دورها للأسف - مع تقلص
الأسرة الممتدة إلى النووية- على الوظيفة البيولوجية فقط وما يتقدمها من علاقات
جنسية تضمن استمرارية النوع، وأيضا ما يشترك فيه الإنسان كذلك مع غيره من الكائنات
من توفير المأكل والمشرب لضمان البقاء، أما الدور التربوي فشبه مغيب، لكن قد نعذر
الأسرة جزئيا لتفريطها فيما أنيط إليها بسبب المؤثرات الخارجية كالإعلام، فتراجعت
جراء ذلك قابلية الخلف للبحث في هوية السلف وتتبع سر تماسك بناهم الاجتماعية ويئس
السلف هو الآخر في نقل تراثه لمن يخلفه لتباعد الوضع الثقافي ولأن الخلف أشعروهم
بالدونية بعدم الاكتراث لمخزونهم الحضاري، ومن المؤثرات الخارجية التعليم الذي فشل
في تحصين النشء لأنه مستهدف هو الآخر.
ولا ينصرف ذهن
البعض أن النشأة السليمة هي متابعة الطفل الدراسة وتقلده المناصب العليا، لا وكلا،
إنما النشأة هي عدم ظلمه الناس الذين ولاه الله شيئا من أمورهم عند تقلده هذا
المنصب أو ذاك، بابتزازهم وتعطيل مصالحهم أو المفاضلة بينهم بسبب العرق أو اللون
أو الدين أو القرابة أو المصلحة المشتركة... ومن مشمولات النشأة السليمة أيضا حفظ
الطفل من كل ما قد ينحرف به عن الطريق السوي، فإن التربية ليست محصورة في المأكل
والمشرب والملبس، ولكن تعني التنشئة الاجتماعية بكل روافدها من تربية حسنة على
العدل وبر الوالدين وصلة الرحم وصدق الحديث وحفظ الأمانة والوفاء بالعهد... وتعهده
كذلك بالتحلي بصفات الرجولة كالشجاعة والإقدام والنجدة والإعانة على النوائب...
وتربيته كذلك على السلوك القويم بتوقير الكبير ورحمة الصغير والإحسان للجار ولين
الجانب للناس عامة، والتواضع وخفض الجناح لهم، وعدم التعرض لما يمس أعرافهم
وثوابتهم، وتجنب كل ما من شأنه أن يخدش الحياء أو يثير الغرائز الكامنة كالتبرج
والانحلال الخلقي إجمالا، وتحذيره أيضا من الرفقة السيئة التي تُزيِّن المنكر وتُنكِر
المعروف فالصاحب ساحب إما إلى الخير أو إلى الشر، ولا سبيل لإدراك ذلك إلا
بالتوجيه الديني السليم على تعاليم الإسلام السمحة لتحقيق السعادة في الدنيا
والنجاة في الآخرة، وكما لا يخفى فقد أصبح من الصعب جدا في زماننا هذا تكوين إنسان
صالح، لكثرة المؤثرات الخارجية كما أسلفت، ولانسلاخ الكل - إلا من رحم الله- عن
دوره المنوط به في التنشئة الاجتماعية، فالأسرة تركت الثغر الذي من جهتها خاليا
واتكلت على المدرسة والمدرسة هي الأخرى تجردت عن مسؤولياتها وتركت الأمر للشارع
للقيام بالواجب، وحتى لو حاولت فلن تحقق ذلك لندرة الكفاءات العلمية ـ
والنادر لا يقاس عليه ـ وفقْدُ المثل الأعلى في المدرس ولاعتمادها على مناهج
منتقاة لا تصقل شخصية المتعلم ولا تجعل منه عالما مبدعا إنما غاية ما يرجى منها
تخريج مثقفين ذوي اطلاع محدود، وأما أزمة الأخلاق فحدث ولا حرج.
ولم يُعط
الأطفال - مع كامل الأسف - حقهم الكافي من التوجيه والتربية في السياسات العمومية،
لأن صناع القرار تغافلوا عن أنهم ثروة لا تقدر بثمن، للسبب نفسه وهو أن هؤلاء أيضا
لهم خلل في التربية، فتعاموا بسببه عن التنبه إلى ما يكفل نشأة رجال الغد نشأة
سليمة، ففاقد الشيء لا يعطيه ومن أمَّل أن تلد أمُّ ثُعالة أرنبا فقد أمل مستحيلا.
رموز انفعاليةEmoticon